اسأل محافِظ بنكِكَ المركزي: هل تغيّر المناخ سيؤذيني؟

قد يصعُب التمكن من الخروج من بعض الحُفر العميقة. - المصدر: بلومبرغ
قد يصعُب التمكن من الخروج من بعض الحُفر العميقة. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

قُبيل إنهاء رئيس "مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي" (Federal Reserve) "جيروم باول" (Jerome Powell) شهادته أمام الكونغرس، في مارس 2019، سأله السيناتور "براين شاتز" (Brian Schatz): "هل توافق على أنّ تغير المناخ يفرض مخاطر ماليةً سواء على المؤسسات المالية الفردية أو على نظامنا المالي ككل؟"

وجاءت كلمات "باول" لتكشف التحدي الكامن في العثور على إجابة شاملة وطويلة الأمد، وطرحت بدورها تساؤلين: "أي نوع من المخاطر يخلقه تغير المناخ؟ وما الذي ستقوم به الشركات حيال هذا الأمر؟"

تشير إجابة "باول" إلى أن "الاحتياطي الفيدرالي" لا يقف مكتوف الأيدي حيال تغيّر المناخ، إلاّ أنّه لا يفعل الكثير، حيث يقول: "لا نُدخِل تغيّر المناخ بشكل رسمي أو مباشر في عملنا الإشرافي، لكنّنا نطلب في الواقع من المؤسسات المالية، وبالأخص تلك الأكثر تعرّضًا للكوارث الطبيعية، أن تفهم هذا الخطر التشغيلي بالتحديد والتعامل معه.

وأضاف: "لذا، إذا كنتَ بنك على سبيل المثال في الساحل الجنوبي لفلوريدا وكنتَ معرّضًا للأعاصير، فسنطلب منك من دون شك أن تُعدّ خططا وأدوات لإدارة المخاطر من أجل التعامل مع هذه الأمور، فتتمكّن بالتالي من رصد الكوارث الطبيعية وغيرها من الأمور المرتبطة بتغيّر المناخ".

أما السيناتور "شاتز" (Schatz)، الذي كان قد راسل "باول"، في فبراير 2019، بشأن المخاطر المرتبطة بالمناخ على النظام المالي الأمريكي، فقد شدّد في رسالته بالقول: "أدرك إّنه يُفترض بكم رصد أي مخاطر مرتبطة بالكوارث الطبيعية، لكن السؤال هو ما إذا كنتم بالفعل قد جمعتم أحدث المعلومات من المختصين للعودة إلى هذه المصارف وشركات الاستثمارات العقارية والمُقرضين الذين إمّا لديهم أصول عالقة أو أصول في المناطق الساحلية أو تعتمد سلاسل توريدهم بالكامل على نمط طقس معيّن لم يعد متوافرًا".

كما تساءل "شاتز". "هل تعتقد أنّكم تقومون بما يكفي في هذا المجال؟ أو لأعيد صياغة السؤال بتعبير آخر هل أنت واثق من أنّكم تقومون بما يكفي في هذا المجال؟"

بدوره، أجاب باول: "أعتقد أنّنا مُطّلعون ولدينا تفهّم كامل بشأن طبيعة المخاطر الساحلية ومخاطر الكوارث الطبيعية وما إلى ذلك، وبالنسبة إلى "الاحتياطي الفيدرالي" أمسى التغير المناخي أمرًا فعليًا وهو يشكّل خطرًا، إلاّ أنّ هذا الخطر تشغيلي، وليس نظاميًا".

لا تعد هذه الإجابة مفاجئة، وهي تبيّن تجاوبًا ضعيفًا مع مشكلة تغير المناخ الأكبر، التي يواجهها النظام المصرفي المركزي والتي وصفها محافظ "بنك إنجلترا" (Bank of England) "مارك كارني" (Mark Carney) عام 2015 بأنّها "مأساةٌ تلوح في الأفق".

وأضاف: "لسنا بحاجة إلى جيشٍ من خبراء شؤون التأمين ليخبرونا أنّنا سنلمس الانعكاسات الكارثية لتغيّر المناخ خارج الآفاق التقليدية ما سيفرض تكاليف على الأجيال المستقبلية، قد لا يشعر الجيل الحالي بحافز مباشر لإصلاحها".

ويعني ما سبق أن الأمور أبعد من مجرّد أوساط الأعمال، والأوساط السياسية، وآفاق السلطات التكنوقراطية مثل المصارف المركزية الملزمة بتفويضاتها. وباعتبار أن آفاق السياسات النقدية تمتدّ لسنتين أو ثلاث سنوات. فإن آفاق الاستقرار المالي، أطول بقليل، لكنّها لا تتجاوز في العادة الإطار الخارجي لدورة الائتمان – أي حوالى العقد الواحد-، وبتعبير آخر متى أصبح تغيّر المناخ عاملًا من عوامل تحديد الاستقرار المالي، سيكون قد فات الأوان.

واستوحيتُ من ملاحظات "باول" وبخاصةٍ من منظور مرور أربع سنوات على تحديد "كارني" لمعالم المشكلة لأنظر إلى ما يفعله القطاع الخاص، بما في ذلك المؤسسات المالية، بشأن تغيّر المناخ. فالشركات ليست سلطات تكنوقراطيةً رغم كل ما تفخر به من قدرات تقنية وتفكير تحليلي، كما لديها آفاقًا وشيكة أكثر من محافظي البنوك المركزية حتى؛ فهل يعني ذلك أنّ تغيّر المناخ يشكّل مشكلةً للقطاع الخاص بشكل ما أو بآخر مما هو عليه بالنسبة إلى "باول" وزملائه؟

تحليل موقف القطاع الخاص

ولكن، بدلًا من تحليل كلمات القطاع الخاص، قمتُ بعدّها، وباستخدام وظيفة "البحث في المستندات" (Document Search) من الخدمات المهنية لبلومبرغ (Bloomberg Professional Service)، بإعداد قائمةً بكل الشركات العامة التي ذكرت تغيّر المناخ في ملفاتها في الفترة من 2014 إلى 2018. وتبين أنه لم يتغيّر عدد الشركات بشكل كبير، إذ وصل من 575 إلى 669 بارتفاع قدره 16 بالمئة إلاّ أنّ إجمالي عدد المرّات التي ذُكر تغيّر المناخ فيها ازداد بأكثر من 50 بالمئة من 2,729 مرة إلى 4,496 مرة.

ثبات أفقي من جهة وارتفاع رأسي من جهة أخرى

المرات التي ذُكر فيها "تغيّر المناخ" في ملفات الشركات العامة

عدد الشركات

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

ولكن، ما الذي تقوله هذه الشركات في الواقع في مكالمات إداراتها؟ فاستخدام عبارة "تغيّر المناخ" للفت الانتباه في أنشطة التسويق أمرٌ، وذكرها في نصوص المكالمات التي لا يُعيرها المحلّلون الكثير من الوقت أو الأسئلة أمرٌ آخر أكثر أهمية.

وكانت شركات خدمات المرافق العامة والطاقة والمواد هي أكثر من ذكر تغيّر المناخ، وشهد كل قطاع زيادةً كبيرة منذ عام 2014 في عدد المدراء الذين تحدثوا عن تغيّر المناخ، وقد أدرجتُ الشركات المالية هنا أيضًا:

العدد الأكبر لشركات المنافع العامة، والزيادة الأكبر للشركات المالية.

الشركات المدرجة في البورصة التي تذكر "تغيّر المناخ" في محادثات الإدارة.

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

ازداد ذكر الشركات المالية لـ "تغير المناخ" في الواقع، وذلك من حيث المدراء الذين أشاروا إلى هذا المصطلح في المكالمات الهاتفية (من 2 إلى 18). وهذا التوجّه مُلفت، ولكن: ماذا عن النسبة المئوية للشركات التي ذكرت تغيّر المناخ في كل قطاع؟ هنا، تبدو المؤسسات المالية أقل مرتبة:

نظرة مختلفة تمامًا

النسبة المئوية للشركات المدرجة في البورصة التي ذكرت تغيّر المناخ في المكالمات الهاتفية للإدارة عام 2018

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

حتى في المجالات التي يبدو من البديهي أنّها معرضة لتغير المناخ مثل خدمات المرافق العامة، بالكاد ذكر أكثر من 1 بالمائة من مدراء الشركات تغيّر المناخ في محادثاتهم مع المحللين. فيما ذكر عُشر بالمائة فقط من فرق إدارة الشركات المالية الأمر العام الماضي.

كما تشكّل الشركات المالية قطاعًا أكبر (من حيث القيمة السوقية) من شركات المواد والطاقة وخدمات المرافق العامة مجتمعةً.

الحصة الأكبر للمصارف

القيمة السوقية بحسب القطاع

"><figcaption style="font-style: normal; text-align: right; direction: rtl;

لا يعني هذا أنّ مخاطر تغيّر المناخ لا تشكّل بالفعل مخاطر تشغيلية، على حدّ تعبير "باول"، إذ أشار تقرير صادر عن مؤسسة "فيرست ستريت فاونديشن" (First Street Foundation)، في فبراير 2019، إلى أنّ زيادة فيضانات المد الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر سبق أن تسببت في خسارة 15.8 مليار دولار أميركي من القيمة النسبية للمنازل على الساحل الشرقي للولايات المتحدة. كما أكد معهد اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي (Institute for Energy Economics and Financial Analysis) أنّه في كل أسبوعين، تُعلن مؤسسة مالية عن فرض قيود جديدة على تمويل قطاع الفحم.

إلاّ أنّ مواجهة الخطر التشغيلي يشمل محفظةً كبيرةً من الأعمال ليس بقدر أهمية ما عانته شركة "باسيفيك للغاز والكهرباء" (PG&E Corp) من تغيّر المناخ ولا ما قالته شركة التعدين "مجموعة ريو تينتو" (Rio Tinto Group) في أول تقرير لها حول تغير المناخ بناءً على توصيات فرقة العمل المعنية بالإفصاحات المالية المتصلة بالمناخ (Task Force on Climate-Related Financial Disclosures) والذي جاء فيه: "نقرّ بأنّ الأمر ناجمٌ إلى حد كبير عن الأنشطة البشرية ويمكن أن يُحدث أثرًا سلبيًا طويل الأمد في عملنا ومجتمعاتنا والعالم أجمع".

وفي كلمةٍ لـ"لبونوا كور" (Benoit Coeure) من "البنك المركزي الأوروبي" (European Central Bank) في شهر نوفمبر 2018، بعنوان "السياسات النقدية وتغيّر المناخ"، قال "إنّ الأفق التي يؤثّر عندها تغيّر المناخ في الاقتصاد باتت أقصر، ما يستدعي نقاشًا حول الطريقة التي يمسّ بها تطبيق السياسات النقدية".

ويرى "كور" أنّ الأفاق البعيدة التي تحدّث عنها "كارني" انهارَت لتصبح مجرّد إطار زمني لمحافظ بنك مركزي، وفي هذا الإطار الزمني، يشكل تغيّر المناخ أيضًا أكثر من مجرّد خطر تشغيلي للمؤسسات الفردية، فهو خطر للبنوك المركزية أيضًا، إذ سيتجه الاقتصاد حيث تتجه سياساتها المالية.

وفي النهاية فإن تغيّر المناخ خطر فعلي، أما بخصوص نوعه ومن سيتأثر به وكيف سيكون ذلك، فيمكنك إما أن تستمع إلى ما تقوله الشركات، أو أن تطرح السؤال على محافظ بنكِك المركزي.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات