هي سنة الانتخابات في جميع أنحاء العالم، بدءاً من الهند والاتحاد الأوروبي والمكسيك وجنوب أفريقيا وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية وأماكن كثيرة غيرها. لكن توجد انتخابات أخرى جرت الأسبوع الماضي، ومرت من دون أن تلفت الانتباه بقدر كبير لاختيار الأمين العام للسلطة الدولية لقاع البحار، بمشاركة 169 دولة عضواً، والتي ستؤثر بصورة كبيرة على 70% من سطح الكرة الأرضية.
تأسست السلطة الدولية لقاع البحار -إحدى هيئات الأمم المتحدة-، بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار خلال 1982. يقع مقرها في جامايكا، وتتمتع بسلطة على كافة امتيازات التعدين في أعماق البحار عبر أنحاء العالم، مع تكليفها بحماية ثروات قاع البحار الدولية (تشكل أكثر من نصف إجمالي مساحة قاع المحيط). جدير بالذكر أن السلطة الدولية لقاع البحار ستقرر ما إذا كانت ستسمح بالتعدين في المناطق التي تحتوي على المنغنيز والكوبالت والنحاس والنيكل.
على مكتبي توجد عقدة صغيرة تحتوي على تلك العناصر، قدمها لي زميل يعمل على استكشاف هذا المصدر المهم للمواد الأساسية. عندما كنت ضابطاً بحرياً شاباً في أوائل الثمانينيات، أجريت دراساتي للدكتوراه حول تكنولوجيا المرتبطة بتعدين قاع البحر العميق، وكنت أعتقد حينها أن هذا المجال سيبدأ قريباً جداً.
أعمال التعدين
كنت مخطئاً، أو كنت أفكر في أمر سابق لأوانه، إذا أردت أن أكون أكثر تسامحاً مع نفسي. تعطل التعدين في أعماق البحار لعدة اعتبارات بيئية واقتصادية، بالإضافة إلى شرط مشاركة التكنولوجيا ذات الصلة مع المجتمع العالمي. لكن في الوقت الراهن، بدأت تتحسن تكنولوجيا استخراج كرات المواد الخام، بينما بدأ تناقص الموارد الطبيعية البرية، وأخذت أسعار السلع الأساسية في الارتفاع.
لذا، فإن انتخاب الأمين العام الجديد للهيئة الدولية لقاع البحار أصبح ذا أهمية كبيرة. الفائزة في الانتخابات، عالمة المحيطات البرازيلية ليتيسيا كارفاليو، حصلت على تفويض قوي، إذ جاءت نتائج التصويت 79 مقابل 34 صوتاً. كارفاليو، التي تعمل حالياً كمسؤولة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة في نيروبي، ستكون أول برازيلية وأول عالمة وأول امرأة تقود هذه المنظمة.
بذل سلفها، مايكل لودج، جهوداً مضنية من أجل إقرار مجموعة من اللوائح الخاصة بتعدين أعماق البحار المدعومة من القطاع.
لا ترجح كارفاليو، التي تتسلم منصبها مطلع يناير المقبل، أن تفي السلطة الدولية لقاع البحار بالموعد النهائي المحدد داخل الهيئة في يوليو 2025 لإصدار تلك القواعد في صيغتها القانونية الرسمية.
هذا أمر سيئ. لا سيما مع زيادة انتشار استخدام السيارات الكهربائية ونمو الحاجة إلى البطاريات، إذ يتسارع تعدين مثل هذه الكرات من أعماق البحار. أصدرت السلطة الدولية لقاع البحار أكثر من 30 عقداً لشركات خاصة وحكومية للبحث عن كرات المواد على مساحة تفوق 500 ألف ميل مربع من قاع البحار الدولي.
أضرار بيئية
يأتي انتخاب كارفاليو في لحظة معقدة. إذ تشير الاكتشافات الجديدة وغير المتوقعة إلى أن الكرات قد تنتج الأوكسجين. هذا يعني الحاجة إلى جمع المزيد من البيانات والتحليل البيئي. دعت أقلية من الدول الأعضاء في السلطة الدولية لقاع البحار (الولايات المتحدة الأميركية ليست من بينها) إلى وقف التعدين، وربما ينضم إليها المزيد في طلب وقف مؤقت.
تقع "المنطقة النشطة" للتعدين في وسط المحيط الهادئ، بالقرب من الدول الجزرية الصغيرة كيريباتي وناورو وتونغا. وهي تعمل مع شركة كندية، "ذا ميتالز كومباني" (The Metals Company) أو "تي إم سي" (TMC)، لبدء التعدين- حتى قبل بدء سريان اللوائح.
لن يلقى هذا قبولاً لدى العديد من البلدان الأعضاء في السلطة الدولية لقاع البحار، التي يرى البعض منها استغلال قاع البحار على أنه استعمار القرن الـ21. ومن المبادئ التوجيهية لاتفاقية قانون البحار أن قاع البحار الدولي هو "إرث مشترك للبشرية جمعاء".
لكن بعض مندوبي الدول -بما فيها الصين واليابان، اللتان تمثلان معاً ربع الاقتصاد العالمي تقريباً- يمضون قدماً في هذا الاتجاه. الولايات المتحدة الأميركية، رغم أنها لا تتمتع بعضوية السلطة الدولية لقاع البحار، تفضل عموماً أعمال التعدين لدعم قطاع التصنيع. تهتم العديد من الشركات الأوروبية والأسترالية والكندية بمواصلة التعدين لأسباب اقتصادية وجيوسياسية.
سمح صعود الذكاء الاصطناعي، المستخدم في استكشاف أعماق البحار، بتعدين أكثر كفاءة، علاوة على التقدم في مجال الروبوتات وتكنولوجيا النانو. ستزيد هذه التقنيات من الضغط بقوة للقيام بأعمال تعدين في أعماق البحار.
الآثار الجيوسياسية
الآثار الجيوسياسية لهذا الأمر تنطوي على مخاطر جسيمة. مع زيادة الطلب على المواد الخام المهمة، ستصبح الحاجة إلى إنشاء كيانات مدعومة من الدولة أو برعاية حكومية لضمان الإمدادات، أمراً لا مفر منه. ستنشأ أيضاً منافسة بين القوى الصناعية الكبرى لكسب ود الدول التي تملك مناطق اقتصادية حصرية شاسعة، تمتد لمسافة 200 ميل بحري بالقرب من حقول واسعة تحظى بوفرة من كرات المواد الخام. برزت بالفعل مبادرات حكومية كبيرة للعمل مع دول جزر المحيط الهادئ لتطوير قاع البحار لديها.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن الأولوية الاستراتيجية الرئيسية يجب أن تكون التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
ومن المفارقات أن الاعتراضات على نظام تعدين أعماق البحار هي التي دفعت الولايات المتحدة إلى معارضة المعاهدة كلها في الثمانينيات، ورغم بعض المحاولات القريبة على مر العقود، إلا أنها لم تتم الموافقة عليها من قبل مجلس الشيوخ الأميركي. مع ذلك، فهي تحظى بدعم ساحق من الخبراء الاستراتيجيين البحريين الأميركيين، بمن فيهم كل الأدميرالات الذين أعرفهم، وفي قطاع الصناعة الأميركي.
إذا أرادت الولايات المتحدة أن يكون لها صوت مؤثر في المناقشات حول أعماق البحار -وينبغي أن يكون لها ذلك- فعليها المصادقة على المعاهدة، والتي ستتطلب تأييداً من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، والسعي للتأثير على العملية من داخل الهيئة.
يجب أن تكون عملية الانتخابات الأخير للسلطة الدولية لقاع البحار بمثابة تحذير يفيد بأن الفرصة للتأثير على السياسة المتعلقة بالمحيطات حول العالم تنجرف (أسلوب تورية مقصود) بعيداً عن الولايات المتحدة الأميركية.