قبل 18 شهراً فقط، كانت أكبر شركة تعدين في العالم متحمسة بشأن النيكل. فقد أحدثت مجموعة "بي إتش بي" (BHP) ضجة كبيرة بإبرامها صفقة مع "تسلا" لتزويدها بالمكون الأساسي للمركبات الكهربائية. كانت "بي إتش بي" على وشك منافسة الملياردير الأسترالي أندرو فورست للسيطرة على أحد أهم المناجم الواعدة عالمياً.
بالنسبة إلى "بي إتش بي"، كان النيكل يمثل بصيص أمل. ركّزت إدارة الشركة على هذه المادة كمكوّن رئيسي للنمو، وكسلعة موجهة نحو المستقبل ستساعدها على تعويض تخارجها من الوقود الأحفوري، وتمكنها من الاستفادة من الطلب الجديد الذي يفرضه سباق العالم نحو خفض انبعاثات الكربون.
بيد أن الأمور سرعان ما ساءت بالنسبة إلى "بي إتش بي" وشركات التعدين الأخرى. فقد باتت سوق النيكل في حالة من الفوضى بعد تدفق إمدادات جديدة من إندونيسيا، نتيجة لاستثمارات صينية ضخمة واختراقات تكنولوجية كبيرة. وحالياً، تتعرض المناجم في جميع أنحاء العالم لخطر الإغلاق، بينما يطلب البعض الآخر عمليات إنقاذ حكومية أو يواجه الإفلاس. وتدرس شركة "بي إتش بي" حالياً على سبيل المثال، مستقبل منجم "نيكل ويست" (Nickel West) الرائد في أستراليا.
زيادة المعروض تضغط على أسعار النيكل
حتى وقت قريب، كانت الأسماء الكبيرة في الصناعة شديدة التفاؤل بشأن آفاق النيكل. فهذا المعدن الذي كان مملاً في السابق ويستخدم تقليدياً في صنع الفولاذ المقاوم للصدأ، يعتبر مكوناً أساسياً لبطاريات المركبات الكهربائية. تم التنبؤ بنقص في العرض لسنواتٍ مقبلة، وانتهزت شركات التعدين فرصة رائعة لصقل أوراق اعتمادها البيئية.
تقليدياً، تم تقسيم النيكل إلى فئتين: منخفض الجودة لصنع الفولاذ المقاوم للصدأ، وعالي الجودة للبطاريات. أدى التوسع الإندونيسي الهائل في إنتاج النيكل منخفض الجودة إلى فائض، لكن الابتكارات في المعالجة سهلت تحويل هذا الفائض إلى منتج عالي الجودة يدخل سوق البطاريات.
نتيجة لذلك، انخفضت أسعار المعدن بأكثر من 40% عما كانت عليه قبل عام، مما زاد من العقبات في سوق تعاني أيضاً من ضعف الطلب، ومن المخاوف المستمرة بشأن اقتصاد الصين. ويقدر محللو "ماكواري" بأن أكثر من 60% من الشركات العاملة في القطاع عالمياً تسجل خسائر بالأسعار الحالية.
معاناة مناجم النيكل خارج إندونيسيا
حجم الانهيار دفع بعض العاملين في صناعة النيكل إلى التساؤل عما إذا كان هناك مستقبل لمعظم مناجمه خارج إندونيسيا. كما أنه يزيد من المخاوف بين صانعي السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا بشأن سيطرة الصين على السلع الأساسية الرئيسية، حيث تقود شركاتها جزءاً كبيراً من إنتاج إندونيسيا.
صرح توم برايس، رئيس استراتيجية السلع الأساسية في "ليبيرم كابيتال" (Liberum Capital)، قائلاً: "بعد مشاهدة تراجع موجة عالم النيكل لأكثر من عام -مع انخفاض سعر المعدن إلى النصف- لدينا الآن بعض الأصول ذات التكلفة العالية". وأضاف أن المناجم في غرب أستراليا والأراضي الفرنسية في كاليدونيا الجديدة من المحتمل أن تكون الأكثر عرضة للخطر.
في كاليدونيا الجديدة -وهي سلسلة جزر جنوب المحيط الهادئ، كانت تُعتبر ذات يوم مستقبل إنتاج النيكل- اضطرت الحكومة الفرنسية إلى التدخل للمحافظة على تشغيل المناجم والمصانع الضرورية لاقتصاد الإقليم. وكان المسؤولون على اتصال مع المساهمين الرئيسيين في ثلاث محطات معالجة لوضع صفقة إنقاذ، ولكن لم يحدث أي اختراق حتى الآن.
مناجم النيكل في أستراليا
الوضع متأزم بالدرجة ذاتها في أستراليا.
بالإضافة إلى مراجعة شركة "بي إتش بي" لأصول النيكل هناك، ستتخلى شركة "بانوراميك ريسورسز" (Panoramic Resources) عن منجم رئيسي بعد دخولها الإدارة الذاتية في أواخر العام الماضي، عندما فشلت في العثور على مشترٍ أو شريك. سيتم إغلاق موقع تابع لشركة "آي جي أو" (IGO) وكذلك بعض المواقع التي تديرها شركة "وايلو ميتالز" (Wyloo Metals) التي يملكها قطب الأعمال أندرو فورست وشركة "فيرست كوانتوم مينيرالز" (First Quantum Minerals).
كذلك يتوجه المنتجون في غرب أستراليا إلى المسؤولين طلباً للمساعدة. وفي اجتماع أزمة نهاية الشهر الماضي، طلب عمال المناجم من الحكومة الفيدرالية توفير إعفاءات ضريبية للمعالجة اللاحقة.
مع ذلك، من غير المرجح أن يوفر بدء تقليص الإنتاج دعماً مباشراً لأسعار النيكل، وفقاً لما يقوله آلان راي رستورو، المحلل في "بلومبرغ إن إي إف". قال روستورو: "من المتوقع أن يستمر تدفق الإمدادات من إندونيسيا في ممارسة ضغوط هبوطية على الأسعار في عام 2024".
إندونيسيا مركزٌ عالمي للنيكل
يعود ذلك إلى أن الإنتاج الإندونيسي -والذي يمثل بالفعل نصف الإمدادات العالمية- قد يثبت أنه أكثر مقاومة لتخفيضات الإنتاج. برزت البلاد الواقعة في جنوب شرق آسيا كمركز عالمي للنيكل بعد استثمارات بمليارات الدولارات في مصانع فعالة تستفيد من العمالة الرخيصة والطاقة الرخيصة والمواد الخام المتوفرة بسهولة.
مع ذلك، أثار التوسع السريع للبلاد انتقادات. ويأتي جزء كبير من إنتاجها من الطاقة التي تعمل بالفحم، مما يجعلها ذات انبعاثات أعلى لكل طن مقارنة بالمنتجين المنافسين، كما أن توسعها السريع يؤدي إلى تآكل الغابات المطيرة.
بدلاً من ذلك، أعلن منتجون مثل شركة "بي إتش بي" أن المشترين الذين يدفعون قسطاً إضافياً مقابل ما يسمى بالنيكل الأخضر سيساعدون على رفع الأسعار. ومع ذلك، لم يكن هناك حتى الآن سوى القليل من الأدلة على ذلك.
اعترفت الشركة في أواخر العام الماضي بأن شركات صناعة السيارات لا تزال سعيدة بشراء النيكل الإندونيسي، مما يشير إلى أنه لن تكون هناك راحة كبيرة لعمال المناجم في أماكن أخرى في أي وقت قريب.
قال برايس من شركة "ليبيرم": "ما الذي يمكن أن يوقف إغلاق المناجم والمشاريع هذه؟ ارتفاع مستمر في أسعار النيكل، بالطبع. وعادةً، لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال انتعاش الطلب على النيكل".