تشترك عارضات الأزياء مع رؤساء الدول ومن يشذبون الحدائق بحيازة منتج يصعب أن تجد أحداً لا يملكه، وهو بنطلون الجينز الأزرق. إن قماش الدنيم، وهو نسيج قطني متين، هو أحد الموجودات الرئيسية ذات الاستعمالات المتعددة في خزانتك وهو أكثرها استدامة.
ربما يتفاوت لوناً فيكون داكن الزرقة أوباهتها وقد يكون مرتفعاً فيبلغ الخصر أو ينأى عنه انخفاضاً، كما أن ذاك القماش قد يستخدم لخياطة فساتين أو قمصان أو تنورات بل يبلغ الأمر ببعضهم أن يصنع منه بزات للسهرة، وأذكر تلك الأخيرة لأن ذلك يحدث وليس لأنه يجب بالضرورة أن يحدث. لكن في ظل بيع أكثر من مليار بنطلون سنوياً، فإن هذا القماش له تكلفة بيئية باهظة.
انظر للجينز المفضل لديك، لقد بدأت رحلته في أحد حقول القطن، أو على الأرجح في مئات الحقول المختلفة، ربما في الهند أو الصين أو الولايات المتحدة أو البرازيل أو باكستان وهي الدول الخمس التي تمثل 75% من إنتاج القطن العالمي. بعد فصل الألياف عن البذور عبر الحلج، تُغزل كي تصبح خيوطاً ثم تُصبغ.
بالنسبة لقماش الدنيم، فيعني ذلك عادة صبغة لونها أزرق داكن. بمجرد حياكة الخيوط ثم خياطة النسيج، يمر الجينز بعمليات تجهيز نهائية مثل السفع الرملي والغسل بالحجارة والغسل بالأحماض للحصول على رثاثة المظهر الرائجة في هذا المنتج. ينطوي الأمر على سلسلة إمداد طويلة ومعقدة تشمل بلداناً وأنشطة أعمال عديدة.
تداعيات بيئية
يصاحب كل خطوة من تلك تأثير بيئي كبير. تقول شركة "ليفاي شتراوس آند كو" (Levi Strauss & Co)، بنطلون واحد من موديل "501"، وهو الطراز الذي تشتهر به، استهلك زهاء 3000 لتر ماء قبل بلوغه المتجر في 2015، كما تسبب في انبعاثات حجمها 20 كيلوغراماً من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وهو مقياس يشمل كل الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
ويضر الإفراط في استخدام مبيدات الآفات والأسمدة بالطبيعة وبالعاملين. كانت صبغة اللون الأزرق الداكن طبيعية فيما مضى، إذ كانت تُصنع من أوراق نبات النيلة الزرقاء، المعروفة أيضاً باسم النيلة الحقيقية. أما الآن، فإن أغلب الصبغات صناعية وتحوي على ملوثات سامة، منها فورمالدهيد والسيانيد.
في بعض أنحاء العالم، تُطرح نفايات الصباغة في المجاري المائية مباشرة، فتصطبغ الأنهار بألوان موضة الفصل المقبل. وقد تتساوى عمليات التجهيز النهائي فيما ينتج عنها من تلوث واستهلاك الموارد بشكل مكثف وفي الخطورة على العمال الذين لا يُزودون في كثير من الأحيان بمعدات حماية ملائمة.
لا يقتصر كثير من تلك المشاكل على عملية إنتاج قماش الدنيم. يُستخدم القطن في حوالي نصف المنسوجات. لكن انتشار الجينز الأزرق يحوله إلى رمز قوي. فماذا سيتطلب الأمر لتحويله إلى منتج صديق للبيئة إذاً؟
أهمية تتبع المصادر
الخطوة الأولى هي تيسير عملية تتبع أصل قماش الدنيم بالكامل. إذا لم تكن علامة تجارية ما مطّلعة على ما يحدث في سلسلة الإمداد الخاصة بها، فهي لن تستطيع أن تضمن أنها تُحدِث تأثيراً إيجابياً، أو أنها على الأقل لا تتسبب في تأثير سلبي.
تلك العملية أعقد مما يبدو. قد تحتوي حزمة غزل واحدة على قطن من مئات المزارع الصغيرة، حيث تُمزج رزم القطن المحلوج للحصول على الجودة والمواصفات المطلوبة. هذا بالإضافة إلى أن شركات الملابس الكبيرة مشتتة جداً، إذ تعمل كل منها بمعزل عن الأخرى، كما شرحت لي المصممة آن أودارد ومستشارة قماش الدنيم المستدام آني ويلز.
حكت ويلز عن إجابة صادقة تلقتها من شخص يعمل في القطاع قائلة: "قال ذلك الشخص لي: أنا مضغوط أكثر مما ينبغي دون ذلك. تلك مهمة شخص آخر، لِم عليّ أن أفكر بذلك أيضاً؟". في سلسلة دراسات بحثية عن قماش الدنيم أجرتها كل من أودارد وويلز، استخدمت أول دراسة مثالاً لمصمم يصنع نموذجاً أولياً من قطعة ملابس مصنوعة من قماش الدنيم العضوي الذي يمكن تتبع مصدر مكوناته.
لكن هناك مسؤوليات متعارضة، إذ إن الفرق المسؤولة عن الشراء ربما تكون قد اختارت قماشاً أرخص لخفض التكاليف قبل أن يكتمل التصميم. بالقدر نفسه، فلا يوجد شخص بعينه في هذه الشركات يعرف كل شيء عن بنطلون من الجينز، لذا قد تضيع بعض المعلومات، مثل ما إذا كان قد خضع موردون معينون لتدقيق أم لا.
الابتكار في القطاع
يجب أن يكون ذلك ممكناً، فالقطن ليس من الغازات، بل هو سلعة ملموسة وقيّمة. تقدم حبوب القهوة والكاكاو دروساً بعدما بُذلت جهود كبيرة لزيادة إمكانية تتبع مصدر تلك السلع. تتفق كل من أودارد وويلز أن تجار القطن، وهم عادةً الوسطاء بين المزارعين وشركات الغزل، لهم دور مهم في تحسين إمكانية تتبع مصادر سلعهم واستدامتها. ثمة اتجاه الآن لإلغاء تلك الخطوة والتوجه مباشرة للمزرعة، لكن الخبرات المعرفية لهؤلاء الوسطاء ستكون ذات أهمية.
هناك أيضاً كثير من الابتكار في القطاع يهدف لتحسين دورة حياة قماش الدنيم. تركز شركة "غود إيرث كوتون" (Good Earth Cottom) على الإنتاج التجديدي وتستهدف تعزيز امتصاص التربة للكربون وتحسين التنوع البيئي من خلال أساليب الزراعة الخاصة بها. تدمج "فايبر تريس" (FibreTrace) أليافاً مضيئة في الأقمشة لكي تنشئ سلسلة إمداد يمكن تتبع مصادرها بالكامل من الحقل وحتى أرفف المتاجر.
كما تصنع شركة "هيو" (Huue) صبغة زرقاء نيلية حيوية دون سموم من السكر. وطورت شركة "زيروس تكنولوجي" (Xeros Technology) كرات بوليمر قابلة لإعادة الاستخدام لتحل محل حجر الخفان في التجهيز النهائي لقماش الدنيم وخفض كمية المياه المطلوبة في تلك العملية إلى النصف.
لكن هناك عيباً واحداً هو التكلفة. رغم أن هناك بعض العلامات التجارية الابتكارية على استعداد للاستثمار، قالت ويلز إن العلامات التجارية تفضل عادةً ألا يكون هناك تأثير على التكلفة، ما يزيد كثيراً من صعوبة التوسع وبالتالي خفض الأسعار بالنسبة للشركات الناشئة المستدامة. إن البيئة الاقتصادية الحالية ليست عنصراً مساعداً. على سبيل المثال، خفضت "ليفاي شتراوس" للتو النظرة المستقبلية لمبيعاتها لعام كامل في ظل ضغط التضخم على القوة الشرائية لدى المستهلكين. قد تكون العلامات التجارية متخوفة من رفع الأسعار بأكثر مما تحتاج.
بداية جيدة
ربما يكون ثبات التكلفة أحد أسباب نجاح مبادرة "بيتر كوتون" (Better Cotton) بشكل كبير إذ إن عديداً من متاجر التجزئة الكبرى للأزياء، بما فيها "ماركس آند سبنسر غروب" و"هينيس آند موريتز" (Hennes & Mauritz)، أعضاء فيها. لا يفرض برنامج الاستدامة علاوة سعرية على القطن المنتج عبره، على عكس الألياف العضوية أو التجديدية التي قد تزداد تكلفتها بما يصل إلى 20%، كما أنه ليس لديه متطلبات صارمة لإصدار الشهادات مثل معايير الألياف العضوية، إذ يسمح البرنامج على سبيل المثال باستخدام المبيدات.
لكن المبادرة تعمل مع المزارعين لمساعدتهم على خفض استخدامهم للماء والكيماويات واحترام حقوق العاملين. كان البرنامج فعالاً في شق طريقه في الصناعة، حيث إن نحو 22% من إنتاج القطن العالمي يأتي من "بيتر كوتون"، مقارنةً بالقطن العضوي الذي يمثل 1% فقط من الإنتاج العالمي.
إنها بداية جيدة، لكن مهم أن نتذكر أن الزراعة ليست سوى جانب واحد من التأثير البيئي لقماش الدنيم، وهو ما يأخذنا إلى التحدي الأخير الذي يجب أن نتغلب عليه. في ضوء غياب تعريف لماهية بنطلون الجينز المستدام، فإن العلامات التجارية لديها حرية في تحديد معاييرها الخاصة.
قالت أودارد: "المشكلة حالياً هي أن للعلامات التجارية مطالب من وجهة نظرها ويرتبط ذلك عادة بأهداف وتوجهات التسويق والتواصل. فهي ترغب في موضوعات تستطيع الحديث عنها وبعض الموضوعات في مجال الاستدامة ليست جذابة لكنها قد تتمتع بتأثير أكبر".
قد يصعب تحقيق ذلك في قطاع يعتمد على المظهر الخارجي، لكن إن كنا حقاً نريد أن نصنع جينزاً لا يضر بكوكبنا، فعلى الشركات أن تنغمس في كل جوانب دورة حياة منتجاتها، وإزالة الحواجز وقبول بعض الزيادة في التكاليف.