اجتمع اثنان من ملوك أوروبا في ظهور نادر خلال شهر يونيو، في ميناء عند مضيق جبل طارق، ليمنحا موافقتهما على محاولة جريئة ومجازفة.
هناك، وبجوار سفن الشحن في ميناء ألخثيراس الإسباني، افتتح ملك إسبانيا فيليب السادس وملك هولندا فيليم ألكسندر، ممراً ملاحياً جديداً. أما الشحنة المهمة التي جذبت انتباه العائلتين الملكيتين المعاصرتين هي الأمونيا الخضراء، المستخدمة في نقل الهيدروجين، والتي تُعد جزءاً أساسياً من خطط إسبانيا لتصبح مركز الطاقة النظيفة بالقارة.
لكن بقية دول أوروبا قد لا تكون مستعدة بعد.
تضخ إسبانيا ما يزيد عن 18 مليار يورو (19.5 مليار دولار) في استثمارات لإنتاج وتوزيع الهيدروجين المُنتج من مصادر الطاقة المتجددة، ما يمثل أكبر جهود أوروبا طموحاً حتى الآن لتبني التقنيات الضرورية لتصبح أول قارة تحقق صافي انبعاثات صفرية في العالم.
يفترض نهج "حقل الأحلام" (Field of Dreams) (القائم على فكرة فيلم أميركي بنى فيه مزارع ملعب بيسبول في حقله أملاً في أن يأتي اللاعبون)، أنه فور توفير العرض، سيظهر الطلب. لكن دولاً، منها فرنسا وألمانيا، بدأت في الانسحاب تدريجياً من أجزاء مما يُطلق عليه "الصفقة الخضراء" الأوروبية، والتي تستهدف إنتاج 10 ملايين طن من الهيدروجين النظيف بحلول 2030، حيث انجرّت الخطة الطموحة إلى "حروب ثقافات" بسبب مخاوف من التكاليف السياسية والمالية.
قد تزيد الانتخابات المبكرة التي ستُقام في 23 يوليو من عدم اليقين، إذ قد تأتي بحكومة جديدة أقل رغبة في الإنفاق على القطاع، وهو ما قد يكرر التاريخ، عندما انسحبت إسبانيا فجأة من برنامج في 2007 لدعم ألواح الطاقة الشمسية، بعدما خرجت الالتزامات المالية عن السيطرة.
وضع استثنائي
تمتد مشروعات الطاقة في إسبانيا من السواحل الشمالية إلى السواحل الجنوبية، وتضم الدولة أكبر منشأة في أوروبا لإنتاج الهيدروجين الأخضر في مدينة بورتولانو. وضعت شركة "كالفيرا هيدروجين" (Calvera Hydrogen SA) في سرقسطة خططاً لإنتاج معدات لتوليد الوقود وتخزينه، حتى في محطات تعبئة وقود السيارات والحافلات والقطارات. وإجمالاً، فإسبانيا موطن لواحد من كل 5 مشروعات استراتيجية للهيدروجين في أرجاء العالم، وتحل في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في ذلك المجال.
وبهذا الشأن، قال كارلوس باراسا، نائب الرئيس لشؤون الطاقة النظيفة في شركة التكرير المحلية "سيبسا" (Cepsa SA) إن "إسبانيا في وضع استثنائي ومتميز يؤهلها لأن تصبح أكبر دولة مصدرة للهيدروجين الأخضر". يُذكر أن الشركة تستثمر 3 مليارات يورو في مشروعات يُطلق عليها اسم "وادي الهيدروجين الأخضر في الأندلس".
يُنتج الهيدروجين الأخضر باستخدام الكهرباء المُولدة من مصادر الطاقة المتجددة التي تفكك جزيئات الماء، ويُعتبر ضرورياً للتحول عن أنواع الوقود الأحفوري. كما أنه وسيلة ناجحة لتخزين الطاقة من الشمس، والرياح، والمياه بطريقة يمكن نقلها عبر خطوط الأنابيب وسفن الشحن.
ولمنع أسوأ تبعات الاحترار العالمي، تقدّر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة أنه يجب أن يقفز إنتاج الهيدروجين إلى أكثر من 500 مليون طن بحلول 2050 من مستواه الحالي الأدنى من مليون طن.
خطى مبالغ في سرعتها ونطاقها
بتميزها بأفضل الأحوال المواتية لإنتاج الطاقة الشمسية في أوروبا، تهدف إسبانيا للاضطلاع بدور رئيسي، لكن الخطر يكمن في أنها تمضي قدماً بمبالغة في النطاق والسرعة.
ويقول مارتن لامبرت، رئيس قسم بحوث الهيدروجين بمعهد أوكسفورد لدراسات الطاقة إن "هناك ترتيباً منطقياً للأشياء، فالخطوة الأولى هي فعل كل ما يمكن لحد انبعاثات نظام الطاقة محلياً، ثم إنتاج الهيدروجين من فائض الكهرباء المولدة من مصادر الطاقة المتجددة للاستخدام المحلي، ثم الانتقال إلى الصادرات".
لكن أظهر الحضور الملكي في ألخثيراس أن إسبانيا تقفز مباشرة إلى خطط النقل.
يُعد نقل الأمونيا أكثر سهولة، إذ يمكن تسييله بيسر. ويُعتبر المركب المكون من جزيئات النتروجين والهيدروجين "أخضرَ" عند إنتاجه بكهرباء مولدة من مصادر طاقة متجددة.
تعتزم شركة "سيبسا" استثمار مليار يورو في الإنتاج بمنشأة سان روكو، والمقرر أن تكتمل بحلول 2027. يُتوقع أن يشهد طريق التجارة الجديد شحن المادة الكيماوية إلى ميناء روتردام الهولندي، مثل مشروع مشابه لـ"إيبردرولا" (Iberdrola SA)، أكبر شركة مُنتجة للطاقة النظيفة في أوروبا، والواقعة في مدينة ولبة القريبة.
لكن الأمونيا مادة شديدة السمية، وسريعة الاشتعال، ومسببة للتآكل. ونظراً للمخاطر الصحية والبيئية، يتطلب نقلها تطبيق معايير سلامة صارمة، وفقاً لمنظمة "المنتدى البحري العالمي"، ما يحد من عدد السفن التي يمكن استخدامها في نقل المادة.
إسبانيا تخصص المليارات لتصبح مركزاً للهيدروجين الأخضر وتستهدف تصدير مليوني طن بحلول 2030
الجهة | وصف المشروع | حجم الاستثمار |
سيبسا | منشأتا توليد بقدرة 300 ألف طن سنوياً | 3 مليارات يورو |
"إتش تو ميد" (H2MED) | خط أنابيب من أيبريا إلى فرنسا وألمانيا، بسعة مليوني طن سنوياً | 2.5 مليار يورو |
مستثمرون متنوعون | منشآت محلية لنقل وتخزين الهيدروجين في إسبانيا (تقدير من شركة "إيناغاز") | 4.7 مليار يورو |
إيبردرولا | توسيع مشروع بورتولانو ومشروعات أخرى في إسبانيا وخارجها | 3 مليارات يورو |
بي بي (bp) | تحليل كهربائي بسعة 2 غيغاواط في مصفاة تكرير بمنطقة فالنسيا بحلول 2030 | ملياري يورو |
الحكومة الإسبانية | دعم القطاع | 3.2 مليار يورو |
هاي ديل (HyDeal) | محللات كهربائية بقدرة 7.4 غيغاواط بمركز في شمال إسبانيا. يبدأ الإنتاج في 2027 | لم يُكشف عنه |
غموض يحيط بدعم المشروعات
مع ذلك، تشكل شركة "إتش تو ميد" (H2Med) أساس طموحات إسبانيا في التصدير؛ إذ يمكن لخط الأنابيب البالغة تكلفته 2.5 مليار يورو نقل مليوني طن من الهيدروجين سنوياً، وسيمتد الخط البحري، المقرر أن يتلقى تمويلاً من الاتحاد الأوروبي، من برشلونة إلى مرسيليا، وقد يصل في نهاية المطاف إلى ألمانيا.
بينما تُنفذ خطوط الإمداد والنقل في إسبانيا، ما زالت دول أخرى متأخرة عن الركب؛ فأقل من 10% فقط من مئات المشروعات المُعلن عنها مدعومة برأس مال متعهد به، حسب "هيدروجين كاونسل" (Hydrogen Council)، وهو اتحاد صناعي. وتتوقع شركة "أورورا إنيرجي ريسيرش" للتحليلات أن 1% فقط من مشاريع خطوط الأنابيب العالمية قيد الإنشاء حالياً.
تضم الدول الأوروبية المتأخرة عن الركب ألمانيا، التي تفشل في تحقيق مستهدفها لإنتاج 10 تيراواط من الهيدروجين بنهاية العقد.
قد يكلف إنتاج الهيدروجين الأخضر أكثر من ضعفي تكلفة إنتاج النوع "الرمادي"، المنتج باستخدام الوقود الأحفوري. وبينما تشجع الولايات المتحدة على إنتاج النوع النظيف بتخفيضات ضريبية للمساعدة على تضييق تلك الفجوة في التكلفة، فإن إطار السياسة الأوروبية مربك أكثر، ما يثير القلق في إسبانيا.
في هذا الشأن قال إغناسيو غالان، رئيس مجلس إدارة شركة "إيبردرولا"، ومقرها في بيلباو: "لدينا مشروعات كثيرة للهيدروجين الأخضر في إسبانيا ودول أخرى، لكن ما زلنا لا نعرف ماذا سيكون الدعم المقدم لهذه المشروعات. علينا تسريع الوتيرة". جاء ذلك في مكالمة مع المحللين بعد إعلان أرباح الربع الأول.
لن يُقام أول المزادات التجريبية لدعم شركات الإنتاج عبر تحديد سعر ثابت للكيلوغرام قبل الخريف المقبل؛ كما لن تصدر اللوائح الكاملة حتى 2028.
دول أخرى تستهدف القطاع
مع انخفاض أسعار طاقة الرياح والطاقة الشمسية بها، تستمر إسبانيا في العمل في أماكن مثل بورتولانو. على بعد 240 كيلومتراً (150 ميلاً) إلى الجنوب من مدريد، أنشأت "إيبردرولا" أكبر مُحلل كهربائي صناعي في أوروبا، وهو جهاز مرتفع السعر وضروري لفصل جزيئات الماء إلى هيدروجين وأكسجين.
داخل المبنى البسيط الأشبه بالصندوق، توجد 16 خلية تحتوي على غشاء تبادل بروتوني (PEM). التقنية الناشئة أكثر وفراً للطاقة عن الأنواع التي تُستخدم فيها المواد القلوية، والتي تنتج الهيدروجين باستخدام هيدروكسيد البوتاسيوم، المعروف باسم البوتاس الكاوي، حسب ماريا ريتورتو، العالمة بالمجلس الوطني الإسباني للبحوث.
تُولّد الكهرباء من حقل قريب به 246 ألف لوح طاقة شمسية، حيث ترعى الأغنام لإبقاء العشب قصيراً حتى لا تشتعل به النار أو يعيق وصول أشعة الشمس لألواح جمع الطاقة.
يمكن للمنشأة التي بلغت تكلفتها 150 مليون يورو توريد 3 آلاف طن من الهيدروجين سنوياً. بينما يشكل ذلك نحو 9% فقط من الحجم التي تحتاجه منشأة محلية تنتج الأمونيا لصنع الأسمدة، فهي اختبار مهم للتكنولوجيا. تهدف "إيبردرولا" لزيادة قدرتها الإنتاجية 10 أضعاف واستثمار 3 مليارات في مشروعاتها للهيدروجين الأخضر بحلول 2030.
وقال خافيير بلازا، مدير المنشأة: "طموحنا أن يتمكن المستهلك النهائي من شراء الخبز عبر سلسلة إنتاج خضراء بالكامل".
مع ذلك، تحتاج إسبانيا إلى ما يقارب 300 منشأة أخرى مثل تلك الموجودة في بورتولانو لتلبية طلبها على الهيدروجين الأخضر قبل أن تتمكن من بدء شحنه خارج حدودها، حسب خافيير رفيلتا، مدير أول بشركة الاستشارات "أفري مانجمنت كونسلتنغ".
توجد دول أخرى تستهدف القطاع أيضاً، خاصة في ظل عيوب توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية مقارنة بتوليدها من مزارع الرياح البحرية، والتي توفر فرصة لزيادة الإنتاج بشكل أكبر. ولهذه الغاية، تزمع شركة "بلغ باور" ( Plug Power) الأميركية إنشاء منشأة لإنتاج الهيدروجين في فنلندا، والتي ستتمتع بميزة إضافية وهي القرب من مراكز التصنيع في شمال أوروبا.
"يبقى لنرى ما إذا كان التصدير من إسبانيا هو الخيار الأمثل أم لا"، حسب قول رفيلتا.