أزمة الكهرباء تشكك بمدى سلاسة تحول الصين عن الوقود الأحفوري

الأسوأ منذ 1865.. جفاف نهر "يانغتسي" يعصف باقتصاد الصين الهش

تكشف ضفاف نهر هان بالقرب من نقطة التقائه بنهر اليانغتسي في ووهان. - المصدر: بلومبرغ
تكشف ضفاف نهر هان بالقرب من نقطة التقائه بنهر اليانغتسي في ووهان. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

وان جين جون متقاعد يبلغ عمره 62 عاماً، كان يسبح في نهر يانغتسي كل يوم تقريباً طيلة العقد الماضي في ووهان، قال إنه لم يرَ جفافاً مثل هذا من قبل.

ألحق الصيف شديد القسوة أضراراً خطيرة بأطول أنهار آسيا، الذي يتدفق على طول 6300 كيلومتر عبر الصين ويغذي مزارع تنتج كثيراً من غذاء البلاد ويشغل محطات كهرومائية ضخمة، بما فيها "سد الممرات الثلاث"، أكبر محطة كهرباء في العالم.

كانت المياه قبل عام تفيض لتبلغ حافة ضفة النهر حيث يسبح وان، لكن منسوبها تراجع لأدنى مستوياته في هذا الوقت من العام منذ بداية تسجيل المناسيب في عام 1865، كاشفاً مساحات من الرمال والصخور والطين البني تفوح منه رائحة الأسماك المتعفنة.

قال وان إن منسوب النهر "مستمر بالانخفاض"، حيث اضطر الأسبوع الماضي إلى أن يسير 100 خطوة نزولاً في النهر، وهو عادةً ما يكون تحت خط الماء، لتبريد جسده في يوم ملتهب بلغت الحرارة فيه 40 درجة مئوية.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

تعطل توليد الكهرباء

تسبب تراجع منسوب نهر يانغتسي بتعطل توليد الكهرباء في عدد من المحطات الكهرومائية الرئيسية، ما أثار أزمة وفوضى في الكهرباء في أجزاء من البلاد. دفع هذا المدن الكبرى، بما فيها شنغهاي، لإطفاء الأنوار وتعطيل السلالم المتحركة وخفض تشغيل المكيفات. حذرت شركة "تسلا" من حدوث اضطرابات في سلسلة التوريد لمصنعها في شنغهاي، فيما أغلقت شركات مثل "تويوتا" و"كونتمبوراري أمبريكس تكنولوجى" (CATL) أكبر صانعة لبطاريات السيارات الكهربائية في العالم، مصانعها.

مع احتمال أن يتمخض تغير المناخ عن موجات حرارة وجفاف أكثر تواتراً واستمراراً، تثير الانقطاعات الحالية تساؤلات طويلة الأجل حول اعتماد الصين على الطاقة الكهرومائية، وهي أكبر مصدر للطاقة النظيفة في البلاد، حيث مثلت نحو 18% من مصادر توليد الكهرباء في 2020، وفقاً لـ"بلومبرغ لأبحاث تمويل الطاقة المتجددة".

رغم أن أزمة الكهرباء أقل حدة بكثير مما كانت عليه في 2021 حين أدى نقص الفحم لانقطاع التيار الكهربائي على مستوى البلاد؛ إلا أنها تضيف إلى التحديات التي تواجهها السلطات في إحياء اقتصاد تتنازعه الإغلاقات المتكررة لمجابهة "كوفيد" من جهة، وأزمة العقارات من جهةٍ أخرى. تأتي تلك الأزمات في توقيت صعب، حيث يسعي الرئيس شي جين بينغ للحصول على فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة بعد بضعة أشهر. كما تضع تلك الحوادث كبار المسؤولين الصينيين في حرج كبير، بما في ذلك شي ورئيس الوزراء لي كه تشيانغ، بعدما تعهدوا بمنع تكرار تلك الأزمات.

كانت مقاطعة ستشوان الجنوبية الغربية، التي عانت من أسوأ جفاف تشهده المنطقة منذ الستينيات، الأكثر تضرراً نظراً لاعتمادها الكبير على الطاقة الكهرومائية. بينما انخفض توليد السدود بمقدار النصف في المنطقة، أدت موجة الحر القاسية لارتفاع الطلب على الكهرباء بمقدار الربع تقريباً، ما شكل ضغطاً إضافياً على شبكة الكهرباء التي تخدم كثافة سكانية بحجم ألمانيا تقريباً، وتزودها بالمراكز الصناعية التي تعتبر موطناً لمصانع موردي شركة "تسلا".

الطاقة الشمسية والرياح

تملك الدولة أيضاً أكبر بنية تحتية من الألواح الشمسية وتوربينات الرياح في العالم، فضلاً عن تكثيف استثمارها في مصادر الطاقة المتجددة، سعياً لتقليل الاعتماد على الوقود المستورد. استثمرت الشركات الصينية 98 مليار دولار في الطاقة النظيفة خلال النصف الأول من 2022، أي أكثر من ضعف إنفاقها على استثمارات الطاقة النظيفة في الفترة ذاتها من 2021.

يُظهر نقص الكهرباء في ستشوان أن الطاقة الكهرومائية، التي يُنظر إليها عادةً على أنها المصدر المتجدد الأكثر استقراراً، ما تزال غير موثوقة مثل الفحم، وفقاً لهانيانغ وي محلل أسواق الطاقة لدى "بلومبرغ لأبحاث تمويل الطاقة المتجددة". قال وي إن ما يحدث يثير الشكوك حول مدى سلاسة تحول الصين عن اعتمادها على الوقود الأحفوري لأن طاقة الرياح والطاقة الشمسية أقل استقراراً.

بدأت الصين تخطط لمزيد من الاعتماد على طاقة الفحم بعد أزمة العام الماضي، التي تسببت بفرض قيود واسعة النطاق على الكهرباء للمصانع في جميع أنحاء البلاد، فعززت مناجم الفحم الإنتاج بنسبة 11% هذا العام تحت ضغط حكومي شديد.

قال لي شو، المحلل لدى منظمة "غرينبيس" في شرق آسيا، إن الوضع في ستشوان يذكرنا بانقطاع التيار الكهربائي في مقاطعة هونان أواخر 2020، عندما أفضت برودة الطقس الشديدة لخفض توليد الرياح وزيادة الطلب على الطاقة بشكل كبير للتدفئة. استجابت الحكومة للأزمة بالموافقة على إنشاء عدد كبير من محطات توليد الكهرباء بالفحم في هونان، حسب تقرير من "منظمة السلام الأخضر" نشرته الشهر الماضي.

قال لي: "آمل ألا يكون الجواب الذي استخلصوه من هذا هو بناء مزيد من محطات توليد الكهرباء باستخدام الفحم، لكنني أخشى أن يكون هذا هو ما يتجهون إليه".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

إغلاق المصانع

حالت مخزونات الفحم الكافية دون انتشار الأزمة إلى أجزاء أخرى من الصين، إلا أنها لم تكن ذات فائدة كبيرة لمقاطعة ستشوان، حيث تشكل الطاقة الكهرومائية أكثر من ثلاثة أرباع قدرة التوليد.

أدت أكبر أزمة كهرباء تعصف بالصين منذ الخريف الماضي لتعليق إمداد العديد من العملاء الصناعيين بالطاقة حتى 25 أغسطس. كما أغلقت شركات صناعية منها "تويوتا" و(CATL) مصانعها في المنطقة لعدة أيام. قالت شركة "تونغوي" (Tongwei)، أكبر شركة لتصنيع البولي سيليكون، إن مصنعها تأثر، وهو ما فاقم شح العرض في سوق مادة تصنيع الألواح الشمسية الرئيسية.

كما امتد تأثير الأزمة ليشمل بعض المناطق خارج ستشوان، حيث أطفأت منطقة الواجهة البحرية "ذا بوند" في شنغهاي إضاءتها الخارجية، فيما علقت ووهان في مقاطعة هوبي بوسط البلاد عرض الضوء الشهير لنهر يانغتسي مؤقتاً.

يُتوقع أن تكون المعاناة في ظل الموقف الحالي أقل من العام الماضي مع اقتصار الإجراءات الأشد على ستشوان إلى حد كبير، حيث تمثل الأخيرة 5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. لكن قد تشكل أزمة الكهرباء خطراً على الاقتصاد المتعثر البالغ 18 تريليون دولار. خفض اقتصاديون توقعات النمو في البلاد لهذا العام إلى ما دون 4%، وهو معدل أقل بكثير من هدف الحكومة البالغ 5.5%.

غير أن الصين لا تعاني من وطأة الحرارة المتفاقمة هذا الصيف لوحدها، فقد تسبب ارتفاع درجات الحرارة في أوروبا بجفاف نهر الراين، حيث تراجع منسوب المياه في أحد الممرات الرئيسية إلى 30 سم، ما يؤثر على إمكانية الملاحة في الممر المائي. كما تسببت موجة الجفاف في الهند بانحسار مساحات زراعة الأرز 13% حتى الآن هذا العام، ما يهدد الإمدادات الغذائية العالمية.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

سماء حارقة ورمال مكشوفة

تجاوزت درجات الحرارة في ووهان، التي ظهر فيها فيروس كورونا لأول مرة في أواخر 2019، 40 درجة مئوية عدة مرات هذا الصيف. قال لو يي، 26 عاماً، وهو أحد عمال ميناء عبارات على نهر يانغتسي: "هذا أكثر صيف أتذكره سخونة" فيما كان يحاول تبريد جسمه بالبقاء في الظل في أحد أيام الأسبوع الفائت. كانت شركته قد نقلت ميناءها العائم قرب الشاطئ هذا العام لإتاحة مساحة أكبر للملاحة البحرية عبر القناة المنحسرة بسبب الجفاف.

كانت أوامر تقليل استهلاك الكهرباء تعني اضطرار المتسوقين لهبوط السلالم المتحركة المتوقفة عن العمل في مبنى "هارتلاند 66"، وهو من أفضل مراكز التسوق الفاخرة في ووهان لأنه يضم منافذ بيع علامات تجارية فاخرة، منها "غوتشي" و"برادا" و"تيفاني". كما خفض مركز التسوق درجات حرارة مكيفات الهواء تاركاً الحرارة ترتفع بشدة في قاعات الطعام في الطوابق العليا.

قد تشهد المنطقة انفراجاً قريباً، إذ يُتوقع أن تشهد مدينة تشنغدو ،عاصمة ستشوان، درجات حرارة أبرد وهطول أمطار اعتباراً من الخميس، وفقاً لإدارة الأرصاد الجوية الصينية. لكن على المدى الطويل، ستواجه الصين وبقية العالم تحديات متزايدة من أنماط الطقس المتقلبة.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

بالقرب من شاطئ هانكو على نهر يانغتسي في ووهان، لم تمنع الحرارة وان وآخرين من الخروج للسباحة حتى الآن. جلس جيانغ جوانغمينغ، 65 عاماً، الذي كان يجدف في النهر منذ مراهقته، القرفصاء في الماء لتجنب تركز أشعة الشمس على كتفيه.

قال جوانغمينغ بحزن فيما كان ينظر إلى الضفة العريضة والجافة: "كادت المياه أن تبلغ مستوى الشارع في السنوات السابقة. هذا العام حتى رمال قاع النهر مكشوفة".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك