تسبب غزو روسيا لأوكرانيا، وما نتج عنه من عقوبات لاحقة، في استبعاد رابع أكبر دولة ملوثة للبيئة من المعركة العالمية للوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية، في الوقت عينه الذي قد تصبح فيه واردات المعادن الأوروبية أكثر تلويثاً.
وفقاً لأشخاص مطلعين على الوضع، يواجه مشروع بمليارات الدولارات من شأنه المساعدة في تقليل الانبعاثات، وتحديث أكبر شركة منتجة للألمنيوم في روسيا تحديات.
وقالت مصادر منفصلة إن مصنعين جديدين يواجهان على الأرجح تأخيرات محتملة، وكان من الممكن أن يساعدا أكبر شركة لتعدين خام الحديد في البلاد على إنتاج مواد صديقة للبيئة لتصديرها إلى أوروبا.
تعهد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، العام الماضي بتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060، لكن توقف تحديثات البنية التحتية المنتظرة يهدد بعرقلة أي خطوات جديدة تتخذها روسيا لتلبية هذا الهدف.
وقالت صحيفة "كوميرسانت" الشهر الماضي، إن روسيا لم تعد قادرة على الوفاء بأهدافها لخفض الانبعاثات في منتصف القرن الحالي.
ولهذا تأثيرات مباشرة على طموحات أوروبا المناخية أيضاً، حيث يعزز تحول الطاقة الطلب على كل شيء، بدءاً من النيكل المطلوب لبطاريات السيارات الكهربائية الجديدة، ومروراً بالنحاس الضروري لتحديثات شبكة الطاقة، وحتى الصلب اللازم للمباني الجديدة الأكثر كفاءة.
اختفاء المحفزات
أصبح إجمالي انبعاثات روسيا بصدد الانخفاض هذا العام مع تراجع اقتصادها، لكن الصناعات التي ما تزال مستمرة في العمل لن تكون قادرة على خفض التلوث الكربوني بالسرعة نفسها، بل وقد تصبح أكثر تلويثاً للبيئة بمرور الوقت.
كما تلاشت الضغوطات الخارجية لخفض الانبعاثات، مثل: بحث شركة "تسلا" عن نيكل أنظف، أو تحرك الاتحاد الأوروبي لفرض ضريبة الكربون على الواردات مثل الصلب، وذلك في ظل تحاشي الدول والشركات الأجنبية للسلع الروسية.
قالت تاتيانا ميتروفا، الزميلة غير المقيمة في مركز سياسة الطاقة العالمية التابع لجامعة كولومبيا: "تلك الحوافز لتطوير مصادر الطاقة المتجددة وتعزيز كفاءة الطاقة ستختفي ببساطة. فلماذا قد توفر الطاقة إذا كان الوقود رخيصاً جداً، وفي الوقت عينه لم يعد الوصول إلى تقنيات موفرة للطاقة متاحاً بعد الآن؟".
وفقاً لباحثي الطاقة النظيفة في "بلومبرغ إن إي أف"، ما يزال الاقتصاد الروسي يعتمد بشدة على الوقود الأحفوري، حيث يولِّد الفحم والغاز حوالي 58٪ من احتياجات الكهرباء في البلاد.
وكانت الطاقتان الكهرومائية والنووية مسؤولتين عن 40٪ تقريباً من توليد الكهرباء في 2020، في حين تساهم طاقتا الرياح والشمس بنسبة لا تذكر من مزيج الطاقة في الدولة.
تأثير العقوبات
كانت الدولة تحرز تقدماً في خفض الانبعاثات من إنتاج الحديد والصلب، المسؤولة عن حوالي 6٪ من غازات الاحتباس الحراري.
وأنفقت شركات صناعة الصلب عشرات المليارات من الدولارات لتحديث وإعادة بناء المصانع السوفيتية القديمة على مدى العقدين الماضيين، وجرى ذلك في كثير من الحالات بالاعتماد على الخبرة والتقنيات الأجنبية. لكن إصلاح هذه المصانع وتحسينها أصبح أكثر صعوبة الآن في ظل العقوبات.
إحدى الطرق المتاحة لتقليل التلوث المنبعث من صناعة الصلب بشكل كبير هي إنتاج نوع من الحديد يُعرف باسم "الحديد المقولب على الساخن"، أو اختصاراً بـ"إتش بي آي" (HBI)، والذي يولِّد ثاني أكسيد الكربون أقل بنسبة 35٪ إلى 40٪ مما ينبعث من العمليات التقليدية على غرار صناعة الفولاذ في أفران الصهر التي تعتمد على الفحم.
في أكتوبر الماضي، وقعت "ميتالوينفست هولدينغ" (Metalloinvest Holding)، أكبر شركة منتجة لخام الحديد في روسيا، عقداً بقيمة 600 مليون دولار لبناء مصنع جديد للحديد المقولب على الساخن في منجم ليبيدينسكي.
الأرجح أن هذا المشروع سيؤجل، وفقاً لمصادر مطلعة على الوضع، طلبت عدم تحديد هوياتها. والوضع نفسه يتكرر في مصنع آخر قيد الإنشاء للحديد المقولب على الساخن، تبلغ تكلفته 540 مليون دولار، وتم التخطيط له حتى يعمل في منجم ميخائيلوفسكيا التابع للشركة.
أهداف مناخية
خططت شركة "ميتالوينفست"، وهي بالفعل أكبر منتج للحديد المقولب على الساخن في العالم، للمنشآت الجديدة اللازمة لتزويد العملاء في أوروبا، والتي من المتوقع فرض رسوم أعلى عليها لاستيراد المواد الخام ذات الانبعاثات الثقيلة، بموجب اللوائح الجديدة التي تهدف إلى القضاء على صافي انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في القارة بحلول منتصف القرن الجاري. وامتنعت الشركة عن التعليق.
أيضاً، فكرت بعض شركات صناعة الصلب الأخرى في تعزيز إنتاجها من الحديد المقولب على الساخن، لجعل صناعة الصلب الروسية أقل تلويثاً، وفقاً لما ذكره مصدر في شركة كبرى بالقطاع طلب عدم ذكر اسمه. وقال مسؤولان تنفيذيان منفصلان في قطاع الصلب، إن هذه الخطط أُلغيت الآن حتى قبل أن تخرج للنور.
قال ألكسندر شيفيلف، الرئيس التنفيذي لشركة "سيفرستال" (Severstal)، وهي واحدة من شركات صناعة الصلب الرائدة في روسيا: "إذا استمر الوضع الجيوسياسي الحالي والعقوبات المفروضة على المدى الطويل؛ قد يجعل ذلك من المستحيل استخدام التقنيات المتطورة الضرورية لتنفيذ المشاريع المطلوبة لتحقيق أهداف المناخ". وأضاف أن شركته ستحاول التمسك بخطتها لخفض الانبعاثات بنسبة 10٪ بنهاية العقد الجاري.
تخلف "الألمنيوم"
عانى قطاع الألمنيوم الروسي، الذي يمثل 10٪ من السوق العالمية، من المشكلة ذاتها. ورغم أن شركة "يونايتد كو. روسال إنترناشيونال"، المنتجة الرئيسية للمعدن في روسيا، غير خاضعة للعقوبات، لكنها تواجه تحديات لوجستية، ونقصاً في الألومينا المستوردة، وهي المادة الخام الضرورية لصنع المعدن، وذلك بسبب الحرب وفرض حظر على الصادرات من أستراليا. وقد يؤثر هذا على استثمارات الشركة المخططة بقيمة 5 مليارات دولار لتحديث مصاهرها.
صرح المتحدث الرسمي باسم الشركة: "تواصل (روسال) برنامج إعادة الهيكلة البيئية لأربعة مصاهر ألمنيوم في سيبيريا. ومن الممكن إجراء تغييرات في بعض معايير المشروع. لكن الهدف سيظل كما هو، حيث ستظهر منشآت إنتاج فائقة الحداثة بدلاً من الورش القديمة التي بُنيت في العهد السوفيتي، وسيتحسن الوضع البيئي في مدننا".
في 30 مارس الماضي، قالت الشركة إن خطة روسيا لتغيير كيفية تنظيم أسعار المعادن محلياً قد تضر بربحية الشركة، ما يؤخر بدوره وتيرة المشروعات.
خطط مستمرة
بالتأكيد ما تزال بعض المشروعات عازمة على تنفيذ خططها البيئية رغم العقوبات. وهذا الشهر، صرحت شركة "إم إم سي نوريلسك نيكل" (MMC Norilsk Nickel) -أكبر منتجة للنيكل المكرر المستخدم في البطاريات حول العالم- بأنها ستواصل تنفيذ خطة بقيمة 4 مليارات دولار تقريباً لبناء منشأة لاحتجاز الكبريت في مصنع للنحاس، ومن المقرر أن تكتمل في عام 2023.
ورغم أن الخطة الجديدة لن تقلل من التلوث الكربوني، إلا أنها ستحد من الانبعاثات المحلية لثاني أكسيد الكبريت.
من السابق لأوانه معرفة كيف ستؤثر العقوبات بالضبط على الاقتصاد الروسي، وبالتالي على الانبعاثات. ويقدر البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يتقلص بأكثر من 10٪ هذا العام، وحذّر بنك روسيا المركزي من "التخلف الصناعي" الذي سيزيد من الهدر والتلوث.
هناك دلائل على أن التأثير الفوري للتراجع الاقتصادي يمكن أن يقلل من التلوث في روسيا. على سبيل المثال، انخفض الطلب على وقود الطائرات في المطارات الروسية منذ غزو أوكرانيا، وفقاً لشركة "كايروس" (Kayrros) الفرنسية للتحليلات الجيوسياسية.
لكن الباحثين في الشركة يقدرون أيضاً أن إنتاج الأسمنت كثيف الكربون، وتوليد الطاقة باستخدام الفحم، ما يزالا بنفس المتوسطات الموسمية المعتادة.
ازدهار الملوثات
في هذه الأثناء، كان للحرب عواقب سلبية أخرى على الانبعاثات العالمية، حيث أدى سعي الدول الغربية للامتناع عن شراء الوقود الأحفوري الروسي إلى ازدهار سوق الفحم. كما أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة الطلب على أنواع الوقود الملوثة للبيئة، بما في ذلك الغاز، في أجزاء أخرى من العالم.
رغم هذا، هناك احتمالات بأن تُقلص العقوبات أنشطة التنقيب عن الهيدروكربونات. وخلال الأسبوع الجاري، صرح أنطون سيلوانوف، وزير المالية الروسي، أن إنتاج النفط الروسي قد ينخفض هذا العام بنحو 17٪ تقريباً بسبب القيود الدولية.
وامتنعت الولايات المتحدة حتى الآن عن فرض قيود على بيع معدات الحفر في المياه الضحلة البرية والتقليدية من شركات مثل "شلمبرجير" (Schlumberger) و"بيكر هيوز" (Baker Hughes)، وقد ينجم عن ذلك تقويض قدرة روسيا على استخراج مزيد من النفط والغاز.
من غير المعروف إلى أي مدى ستخيم الحرب على الشركات الروسية. ويعمل المسؤولون التنفيذيون حالياً في اقتصاد زمن الحرب، بدلاً من نموذج التكامل العالمي المتزايد السابق، ما يجعل الإعلان عن خطط مستقبلية أمراً مستحيلاً. وبينما تعاني الشركات للصمود في ذلك الوضع، فإن الأهداف المناخية لا تحتل صدارة أولوياتهم.
اختتمت ميتروفا: "الشركات الروسية لا تفهم توقعات الدولة، حيث يمكن الإعلان عن وقف أحد المشروعات الرئيسية في يوم، وتتهمك الدولة بخيانة الوطن. والكل يرغب في إنقاذ نفسه".