بطاقة 2.5 ميغاواط للتوربين، يرتفع توربينا رياح على أنقاض مدينة دمرتها الحرب في الأراضي السهلية المنخفضة من مدينة حسياء الصناعية في ريف مدينة حمص السورية، ليغذيا حوالي 10 آلاف منزل، وبموارد وخبرات محلّية بالكامل، متحدّيان العواصف السياسية والاقتصادية في البلد التي أنهكتها الحرب والعقوبات الاقتصادية.
بدأت القصة مع تلميذٍ في الثالثة عشر من عمره، دفعه شغفه بالطاقة المتجددة، الممزوج بروحه الوطنية، لكتابة ورقة بحثية في إحدى مدارس دبي عن مشروعٍ لصناعة توربينات رياح في سوريا. لكن الورقة عادت إليه مع علامة صفر من المعلمة، التي قالت له: "سوريا يجب أن تُبقي تركيزها على الزراعة، وليس على مثل هذه التكنولوجيا والصناعة المعقّدة"، بحسب ربيع إلياس، الرئيس التنفيذي لشركة WDRVM، والذي يبلغ 28 عاماً الآن.
التمويل
مؤمناً بفكرة ابنه ربيع، أسس وليد إلياس شركة WDRVM لصناعة توربينات الرياح في سوريا عام 2007، كامتدادٍ للشركة التي أسسها والده في دبي عام 1966، والمتخصصة ببيع وتوزيع وصيانة محرّكات التروس وآلات اللحام، ولديها أكثر من 42 عميلاً عالمياً، ما جعل مشروع توربينات الرياح، الذي يشكّل حالياً 60% من نشاط الشركة العائلية، لا يحتاج عند انطلاقه لأية دعم مالي من المستثمرين أو الحكومة.
عقب تدشين توربينها الثاني في سوريا العام الماضي، بعد الأول في 2019، تلقّت الشركة العديد من العروض لشراء توربيناتها من دولٍ أوروبية وآسيوية وأفريقية، فضلاً عن منطقة الشرق الأوسط، منها: السعودية والكويت والمغرب والأردن وجنوب أفريقيا وجمهورية التشيك وبلغاريا، وهي حالياً بطور المفاوضات لتطوير مزرعة رياح تضمّ 560 توربيناً بطاقة إجمالية 1400 ميغاواط في دولة مجاورة.
جدوى الاستثمار
في حين أن تكلفة توربين الرياح الواحد تُقدّر بمليون دولار بشكلٍ عام، بحسب مصادر مستقلة، فإن هذا السعر قد يتفاوت، اعتماداً على نوع التوربين وحجمه ومناخ الدولة وسرعة الرياح والموقع. وتبلغ الطاقة الإنتاجية الحالية لمعمل الشركة في سوريا 50 إلى 60 توربيناً سنوياً.
تسعى الشركة للتوسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد تحقيق أهدافها المحلية بإمداد سوريا بالطاقة الكهربائية، طامحةً بالتنافس في أسواقٍ عالمية مستقبلاً.
رغم حماس الحكومة السورية مؤخراً للتحوّل إلى الطاقة الشمسية والاستثمار فيها، بسبب أزمة الطاقة التي تعاني منها البلاد نتيجة العقوبات الخارجية ونقص إنتاج النفط بسبب الحرب، إلاّ أنّ عائلة إلياس تفضّل الاستثمار في طاقة الرياح، باعتبار أنها تتطلب تكنولوجيا أقل تعقيداً، ومساحات أرضية أقل لإنتاج الكهرباء مقارنةً بالألواح الشمسية. ومن الناحية التجارية، فإنّ العائد على الاستثمار في طاقة الرياح أسرع من مثيله في الألواح الشمسية، إذ يُمكن أن تبدأ الشركة بتحقيق الأرباح بغضون 3 إلى 4 سنوات، مُقارنةً بعشرة إلى 13 سنة للألواح الشمسية.
الانطلاقة
منذ انطلاق فكرة المشروع من قِبل الابن ربيع عام 2006، حين ترك المدرسة لمدة شهر للمشاركة في معرض هامبورغ لطاقة الرياح (WindEnergy Hamburg) في ألمانيا، واجهت المبادرة تشكيكاً كبيراً من العديد من الخبراء حول احتمالية نجاح مشروعٍ كهذا في بلدٍ يتَّسم بنية تحتية ضعيفة مثل سوريا.
لكن "استطعنا إقناع العديد من الشركات أنّنا سنؤسس هذا المصنع في سوريا، وأنّنا سننجح باعتبار أن طاقة الرياح هنا سخيّة جداً. فنحن نتحدّث عن 80 غيغاواط من الطاقة الريحية المحتملة"، كما تقول فاليرينا إلياس (25 عاماً)، ابنة وليد والمديرة العامة للمشروع والتي أدارت عملية نصب التوربينات بنفسها. هذا الأمر أقنع إحدى الشركات الألمانية في حينها بإرسال خبراء لتدريب كفاءات سورية لدخول هذه الصناعة.
بعد مضي عام، أي في 2007، أنشأ وليد إلياس شركة WDRVM، والتي تشير إلى الأحرف الأولى من أسماء أفراد عائلته، وهم أيضاً أعضاء مجلس إدارة الشركة، وهم: وليد إلياس (الأب)، دينيس جرجس (الزوجة)، الابن ربيع، الابنة فاليرينا، والابنة الأصغر ماركيز (18 عاماً).
وتعبّر فاليرينا عن شعورها عند رؤيتها التوربين الأوّل شامخاً في موقعه، بالقول: "حتّى اليوم، في كلّ مرة أمرّ فيها بجانبه (التوربين)، أنظر إليه بدهشة، ولا أستطيع أن أصدّق أنّ عامين مضيا على نصبه في موقعه".
رغم داعش
بين عامي 2013 و2015، توسّعت مرافق المصنع من 11 ألف متر مربّع إلى 75 ألفاً، لكن هذا التوسع ترافق مع التحدّي الأكبر الذي واجه الشركة، حيث أصبح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على بعد 3 كيلومترات من المصنع، مودياً بطريقه بحياة عددٍ من الموظفين.
ويتذكر إلياس: "كان الأمر مخيفاً جداً، لكن عائلتنا آمنت أنه لا يجب أن نتوقف أبداً. استمرّينا في العمل، واستطعنا أن نبني مخيماً للموظفين للعمل والمبيت هنا يحوي كافة وسائل الراحة. وقسّمنا الورديات بحيث يعمل بعض الموظفين لأسبوع، في وقتٍ يذهب زملاؤهم للمنزل لأسبوع، وضاعفنا الرواتب".
شكوك
يُنوّه سمير عيطة، الاقتصادي السوري ورئيس دائرة الاقتصاديين العرب في باريس، بأنّ "حمص كانت دائماً معروفة في سوريا بطاقة رياحها، حيث تقع في منطقة مسطّحة غير محاطة بأية جبالٍ أو مرتفعات، ما ينتج عنه قوة رياح تؤدّي في ذروتها إلى انحناء جميع الأشجار في المنطقة". لكنه يشير إلى أنه "رغم وجود هذه القدرة الهائلة على توليد الطاقة من الرياح في المنطقة، لكن لم يُتّخذ أي إجراء أو مبادرة بهذا الاتجاه من قِبل الحكومة أو القطاع الخاص على مدى عقود".
إلى ذلك، يشكك عيطة بقدرة شركة WDRVM السورية على المنافسة الإقليمية والعالمية، بوجود أسعار منافسة قادمة من مصر، وضعف القدرة التمويلية من البنك المركزي السوري، والعقوبات الاقتصادية التي تضيف تحدّياً أكبر على التصدير. ويرى أن "مسألة إنتاج توربينات رياح وتصديرها دولياً يحمل بعض المبالغة والإمكانية غير الواضحة".
ينضمّ خبير تحوّل الطاقة أنطوان فانيور جونز، من "بلومبرغ إن إي إف" (BloombergNEF)، إلى عيطة في شكوكه، بقوله: "لا أستطيع أن أتخيل كيف سيستطيعون المنافسة في الأسعار مع مصنّعين عالميين في هذه المرحلة، حتى مع انخفاض النفقات التشغيلية كتكاليف العمالة". معتبراً أنه "من الصعب جداً الوصول إلى أي مكانٍ في مشروعهم ما لم يكن هناك دليل أنّ سوريا سنّت سياسة مناخية قوية لتوسيع نطاق التصنيع محلياً، تشمل وضع هدف موثوق للطاقة المتجددة، وكافة الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك، وفي مقدمها البنود الضريبية والجمركية".
شبح العقوبات
رغم غياب السياسات والأهداف البيئية الواضحة، بدأت الحكومة السورية بالتحوّل إلى الطاقة المتجددة كوسيلة للتعويض عن الإنتاج النفطي المُستنزف، والبنى التحتية المُدمّرة من الحرب، والعقوبات الخارجية.
ووضعت وزارة الكهرباء السورية استراتيجية لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة بقروضٍ تصل إلى 70% من التكلفة المُقدّرة للمشروع.
في 2020، أخذت الحكومة خطوة إضافية لتشجيع مشاريع الطاقة المتجددة من خلال تحديد أسعار الشراء الحكومي للكهرباء من مشاريع الطاقة المتجددة والأنظمة المتصلة بشبكة التوزيع لتصل إلى 7 سنتات يورو من الطاقة القادمة من الألواح الشمسية، و6 سنتات يورو من الطاقة المُنتجة من توربينات الرياح.
إلى ذلك، تُشكّل العقوبات الدولية على سوريا تحدياً آخر لمشروع WDRVM، ففي عام 2013، أصدر الاتحاد الأوروبي مجموعة من العقوبات، من ضمنها حظر الدول الأعضاء من التعامل مع مشاريع البنى التحتية السورية المُولّدة للكهرباء.
بينما يعتقد ربيع إلياس أن "الطاقة المتجددة لا علاقة لها بالسياسة، أو بالحرب، أو بأي صراع بين الدول وبين السياسيين. الطاقة المتجددة للجميع"، إلاّ أنه يعترف بأن العقوبات أضافت مزيداً من المصاعب التجارية على شركته العائلية.
في حين تؤكد شقيقته ماركيز، عضوة مجلس الإدارة الأصغر في الشركة العائلية، أن هدفهم "إثبات أن سوريا هي بلد قادرة على إحداث تغييرٍ إيجابي في العالم رغم كلّ الشكوك.. نريد أن نترك إرثاً للأجيال القادمة والحفاظ على أرضنا وتخليد اسم عائلتنا".