يبدو أن البورصات تركت خلفها المحاولة الأكثر طموحاً لوضع معايير مرتفعة لتعويضات الكربون، إذ بدأت بتداول عقود التعويضات، حتى قبل وضع اللمسات الأخيرة على القواعد الخاصة بها.
وفي هذه الأثناء، فإن فريق العمل المعني بمهمة توسيع أسواق الكربون الطوعية -الذي يقوده محافظ بنك إنجلترا السابق، مارك كارني، مع بيل وينترز، كبير المديرين التنفيذيين لـ"ستاندرد تشارترد"- يضم مئات المصرفيين والمديرين التنفيذيين في شركات الطيران، وخبراء الاستدامة، ومجموعة من تجار السلع، والعلماء، وغيرهم من قادة الأعمال. ومؤخراً، وبعد نحو عام من الجدل الداخلي، وضعت هذه المجموعات توصياتها النهائية حول كيفية تحديد تعويضات الكربون، التي تعدّ نوعاً من التراخيص تستخدمها الشركات لإلغاء ناتج التلوث الذي تصدره.
حوكمة تعويضات الكربون
تتمثل الخطوة التالية أمام هذا الفريق بإنشاء هيئة حوكمة تحدد مجموعة من القواعد (بناءً على توصيات فريق العمل)، وذلك بهدف رفع الطلب على ائتمانات تعويض الكربون التي تفي بوعودها المتعلقة بالمناخ، إلا أن بورصات السلع الأساسية في شيكاغو وسنغافورة تسارع لبدء تداول العقود هذا العام، وذلك قبل اتخاذ قرار بشأن المعايير الخاصة بالتعويضات، وهو أمر يثير المخاوف بشأن فشل فريق عمل المهمة في توفير أي نوع من الهيكلية لهذه السوق، التي لا تخضع لأي إشراف حكومي.
يذكر أنه يمكن لتحديد معالم السوق بشكل صحيح أن ينشئ سلاحاً فعالاً في مكافحة تغيّر المناخ، وذلك من خلال توجيه الأموال التي تشتد الحاجة إليها إلى المشاريع البيئية الهامة في جميع أنحاء العالم. لكن تشجيع تداول العقود دون قواعد واضحة حول ماهية تعويض الكربون ذي الجودة العالية، أو كيفية استخدام الأرصدة لحساب إجمالي انبعاثات الشركة، أمر قد ينتج عنه عواقب وخيمة، إذ قد تستخدم الشركات تعويضات مشكوكاً فيها كترخيص لها كي تستمر في إصدار الانبعاثات، ما يؤدي إلى تراكم مزيد من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
علامة "الجودة"
كذلك يتمثل أحد الأهداف الرئيسية لفريق عمل المهمة في التوصل إلى وضع علامة التوافق مع "المبدأ الأساسي للكربون"، الذي سيُستخدم لتمييز التعويضات التي تفي بالمعايير الموضوعة لها، وذلك على غرار الطريقة التي يمكن بها تصنيف منتجات البقالة على أنها عضوية مثلاً. وقد أمضى الأعضاء أشهراً بالجدل حول معايير إدراج هذه العلامة، مع وجود انقسامات حادة حول مدى ارتفاع المعيار، حتى مع رغبة الشركات في بدء التداول.
من جهته، قال تيم آدامز، رئيس معهد التمويل الدولي، الذي يساعد في تنظيم فريق العمل: "نحتاج إلى وضع هذا المعيار وإطلاقه". وقالت سونيا غيبس، وهي مسؤولة أخرى في معهد التمويل الدولي، إن فريق العمل قد قام بالفعل بجزء كبير من العمل القانوني لتحديد المبادئ الأساسية، وتقديم التوجيه إلى أي جهة ترغب الآن في تبنيها.
توصيات الفريق
وتقترح التوصيات غير الملزمة التي صدرت في الثامن من يوليو الحالي، ما يلي:
• عدم استبعاد أي نوع من تعويضات الكربون من السوق، على الرغم من حصول الائتمانات "عالية الجودة" على علامة تميزها.
• يجب على كل ائتمان أن يتضمن إشارة تعريفية بـ"السمات الإضافية"، وتحمل معلومات تدل على الموقع الجغرافي، أو القدرة الفعلية على إزالة ثاني أكسيد الكربون.
• يجب أن يوجد إطار قانوني قوي وراء جميع الائتمانات التي تباع.
وحالياً، تُعلَّق الآمال على أن تحدِّد هيئة الحوكمة التي ستشكَّل المعاييرَ الخاصة بعلامة "برنامج التغير المناخي" (CCP) لتمييز التعويضات عالية الجودة، بحيث يمكن بدء التداول بها في عام 2022. لكن بعض البورصات لم ينتظر حدوث ذلك، إذ بدأت شركة "سي إم إي غروب" (CME Group)، وهي إحدى أكبر بورصات المشتقات في العالم، القيام بالتعاملات بالفعل. وأشار آدامز إلى إن سنغافورة تخطط لبدء تداول العقود المتوافقة مع "برنامج التغير المناخي" قبل اجتماع قادة العالم في اسكتلندا لإجراء محادثات المناخ في نوفمبر.
منصة "كلايمت إمباكت إكس"
سيُسهَّل التداول على أرصدة الكربون من خلال "كلايمت إمباكت إكس" (Climate Impact X)، وهي منصة جديدة تدعمها شركة الاستثمار الحكومية السنغافورية، وبورصة الأوراق المالية، وأكبر بنك في البلاد. ويحتمل أن تستند الصفقات في سنغافورة إلى المبادئ التوجيهية التقريبية التي وضعها فريق عمل المهمة حتى الآن. وليس من الواضح بعدُ ما إذا كانت هذه العقود ستُعدَّل لاحقاً لتتلاءم مع معايير الهيئة للتعويضات المتوافقة مع "برنامج التغير المناخي"، ما إن تصبح نهائية. وقد رفضت "كلايمت إمباكت إكس" التعليق على الأمر.
من جهته، قال ديريك برويكوف، عضو فريق العمل وكبير العلماء في "معهد ستوكهولم للبيئة": "ما يقولونه أساساً هو أنهم يعدون بالحصول على ائتمانات معتمدة من (برنامج التغير المناخي) وتسليمها إلى نظرائهم في المستقبل". ومن المحتمل أن يدفع المشترون مقابل هذا النوع من الائتمانات أكثر مما سيدفعونه عند شراء الائتمانات مباشرة من الوسطاء أو مطوري المشاريع، وذلك مقابل ضمان شرائهم لتعويضات عالية الجودة ومعتمدة من قبل فريق العمل. وقال: "سيقع الأمر على البائعين لاحقاً، للحصول على هذه الائتمانات وتسليمها".
التأثير الفعليّ.. نادر للغاية
تُعَدّ التعويضات عالية الجودة التي تزيل الكربون الإضافي من الغلاف الجوي بالفعل نادرة للغاية. وشكلت الائتمانات المستندة إلى تجنّب الانبعاثات 96% من جميع العقود الصادرة في العام الماضي، وفقاً للبيانات التي جمعتها فرقة العمل. وهذه التعويضات تستند في الغالب إلى منع قطع الأشجار أو دعم مشاريع الطاقة المتجددة. ويحذّر علماء المناخ من استخدام مثل هذه الائتمانات لإزالة التلوث المستمر للشركة، لأنه من الصعب للغاية تحديد كمية الكربون التي توفرت بالفعل من خلالها، هذا إن وُجد أي توفير بالأصل.
في وقت سابق من هذا العام، بدأت بورصة شيكاغو التجارية (CME) بتداول العقود الآجلة لتعويضات الكربون، إذ قبلت التعويضات المؤهلة من خطة تعويض وتخفيض الكربون للطيران الدولي (Corsia)، الصادرة عن معيار الكربون المعتمد، وسجل الكربون الأمريكي، واحتياطي العمل المناخي. وقد جرى التداول بهذه الأرصدة لأول مرة في مارس الماضي، وضمت قائمة المتداولين كلاً من متداولي النفط المستقلين "فيتول" و"ميركوريا". وتخطط البورصة أيضاً لبدء تداول "عقود التعويضات المستندة إلى الطبيعة" في الأول من أغسطس القادم.
بينما تعد بورصة شيكاغو التجارية عضواً في فريق عمل توسيع سوق تعويضات الكربون الطوعية، فإنها لم تصل إلى حد القول بأنها ستتبنى مبادئ "برنامج التغير المناخي" فور إصدارها. وقالت في بيان لها: "لسنا خبراء في تغيّر المناخ. نحن مدفوعون بطلب العملاء، وسنستمر في الاسترشاد بتفضيلات عملائنا وتعليقاتهم".
سوق ضخمة
أثار قرار البورصات بالمضي قدماً في تداول التعويضات قبل الانتهاء من وضع علامة الاعتماد من "برنامج التغيّر المناخي" مخاوف بعض أعضاء فريق العمل من كون منظمي المجموعة على استعداد للتضحية بالجودة مقابل الكمية. ويقول كارني إنه يمكن تقدير قيمة سوق التعويضات بـ100 مليار دولار بحلول عام 2030، ارتفاعاً من نحو 300 مليون دولار في عام 2018، وذلك مع تنامي الطلب بسرعة، وبالتزامن مع تحديد عشرات الشركات والبلدان أهدافاً للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية.
ويقول أوين هيوليت، وهو عضو فريق العمل ورئيس قسم التكنولوجيا في "أوفسيت ريجستري غولد ستاندرد": "إن فريق العمل لا يحرز تقدماً حقاً في مجال الجودة". وقال إن التركيز ينصبّ على بناء سوق كبيرة وفعّالة لتلبية الطلب، بدلاً من حل المشكلات الشائكة المتعلقة بكيفية استخدام الشركات للتعويضات بالفعل. وأضاف: "هذا هو سبب وجود كثير من الشكوك".
كذلك يبدو أن فريق العمل مقيد أيضاً بسبب افتقاره إلى السلطة، إذ يعتبر تداول التعويضات طوعياً، ويعتمد مطورو المشاريع على استعداد الشركات لتمويل برامجهم. وبالنسبة إلى البعض فإن الأمر يتعلق ببدء التداول بأسرع ما يمكن، لذلك يمكن أن يتدفق مزيد من الأموال لتعزيز حماية البيئة، مع التحرك ببطء نحو تحقيق معايير أفضل بشكل فعلي، وذلك حتى الوصول إلى مرحلة التنظيم الحكومي في نهاية المطاف.
وتقول إيزابيل هاغبرينك، مديرة الاتصالات في "ساوث بول" لتطوير المشاريع، التي تعمل ضمن فريق العمل: "دعونا نعترف ونُشِد بأولئك الذين ينجزون شيئاً ما، وبالطبع علينا أن نشجعهم على القيام بالمزيد". وأضافت: "لكن علينا أن نفهم كذلك أن على الحكومات التدخل في النهاية وتصعيد الموقف لتقول: حسناً، هذا لا يكفي. لا يمكن أن يكون العمل المناخي طوعياً بالكامل".