رفعوا رواتبهم ووعدوهم بترقيات أسرع. ورغم ذلك، لاتزال كبرى شركات الأوراق المالية والبنوك على مستوى العالم تكافح للاحتفاظ بصغار المصرفيين في آسيا، الأمر الذي يضيف مزيدا من التحديات بشأن تنفيذ خطط تلك المؤسسات للتوسع في منطقة تنمو بوتيرة أسرع من أي مكان آخر.
يقول مسؤولو التوظيف والمسؤولون التنفيذيون إن وقف موجة الاستقالات الجماعية للموظفين في آسيا أكثر صعوبة من مناطق أخرى مثل نيويورك ولندن، في ظل رفض المحللين والمتخصصين ثقافة "اعمل حتى تسقط" السائدة هناك.
تحقيق مكاسب أكبر
من المتوقع أن يغادر الموظفون الشباب العمل في أكبر مراكز الأعمال في آسيا لاعتقادهم إمكانية تحقيق مكاسب أكبر وترقيات أسرع في أماكن أخرى بالمنطقة التي تزخر بالعديد من شركات التكنولوجيا المالية والاستثمار التي تم تأسيسها للاستفادة من ازدهار الاقتصادات والنمو السريع للثروة.
يزداد التحدي بقوة في الصين وهونغ كونغ بسبب كثافة وتيرة التوظيف لدى الشركات الأجنبية التي تسعى للاستفادة من الانفتاح المالي في أكبر اقتصاد بآسيا، وسط منافسة حادة بين بعضها بعضا والشركات المحلية الناشئة.
قال مارك ليونغ الرئيس التنفيذي لشركة "جي بي مورغان" في الصين في مقابلة مع تلفزيون بلومبرغ: "تواجه الصناعة مشكلة كبيرة جداً في العرض والطلب، ولا أعتقد انتهاء ذلك في وقت قريب".
يوظف "جي بي مورغان" والعديد من البنوك العالمية، من بينها "غولدمان ساكس" و"كريدي سويس" و"اتش اس بي سي" مئات الموظفين في ظل اندفاعها للعمل بالسوق الصيني.
هجرة متزايدة
ورغم صعوبة تحديد عدد الموظفين الذين تركوا وظائفهم بدقة، أظهرت نتائج استطلاع غير رسمي أجرته "بلومبرغ نيوز" للمديرين التنفيذيين في أربع شركات أوراق مالية عالمية، أن ما بين 13 - 15% من المحللين والمتخصصين العاملين في البنوك الاستثمارية استقالوا هذا العام بزيادة تقارب ضعف المتوسط في السنوات السابقة. ويقترب ذلك المعدل من التقديرات الخاصة بالصناعة في الولايات المتحدة وأعلى من بريطانيا، وفقاً لمسؤولين تنفيذيين في شركات التوظيف.
قال مسؤولون تنفيذيون في مجموعات عالمية وإقليمية طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم، إن معلات الاستقالة ارتفع رغم زيادة أجور المصرفيين العاملين في هونغ كونغ، والمتخصصين في قطاعات حيوية يزداد عليها الطلب مثل التكنولوجيا والرعاية الصحية بما يتراوح بين 25 - 30% سنوياً منذ عام 2019. فيما أشار أحد المسؤولين إلى أن الزيادات كانت أقل في جنوب شرق آسيا ولكن استنزاف الوظائف يتزايد هناك أيضاً.
غادر جوناثان لام بنك "اتش اس بي سي" الاستثماري في هونغ كونغ منتصف العام الماضي لينضم إلى فريق تأسيس شركة "بتلر" Butler الناشئة لتقديم خدمات الكونسيرج المنزلية، والتي ساهم في انطلاق أعمالها وتقديم خدمات شخصية تتراوح بين التدبير المنزلي إلى إصلاح الغسالات واستضافة حفلات العشاء. وأعرب "لام" عن شعوره بإحداث تأثير و"امتلاك شيء ما" دفعه لترك وظيفته في أسواق رأس المال بعد أن تمت ترقيته مباشرة، كما أرجع قراره لزيادة احتمالات تحقيق مكاسب مالية غير متوقعة.
وقال "لام" البالغ من العمر 30 عاما والذي أسس "بتلر" مع موظفين استقالوا من "غولدمان ساكس" و"ويلز فارغو": "يمكنك تحقيق مكاسب جيدة في الأجل القصير من العمل في البنوك، ولكن في الشركات الناشئة يمكن تحقيق ثروات كبيرة في حالة نجاحها". أكملت شركة "بتلر" الناشئة جولة تمويل العام الماضي ويعمل لديها 30 موظفا.
جاذبية آسيا
ساهم النمو الاقتصادي في آسيا في أن تصبح واحدة من أكثر مناطق العالم جذباً لرجال الأعمال. حيث ارتفعت حصتها من استثمارات الشركات الناشئة العالمية إلى حوالي 40% خلال الفترة من 2015 إلى 2017 مقارنة بحصتها البالغة 10% قبل عقد من الزمان، بحسب "ماكينزي". ما دفعها لتصبح موطنا لما يزيد عن ثلث شركات "اليونيكورن" أو الشركات "أحادية القرن"، حول العالم، وهو مصطلح يطلق على الشركات الناشئة التي تزيد قيمتها عن مليار دولار.
زادت حدة وتيرة الاستقالات بسبب ما تشهده صناعة التمويل من نمو متصاعد في آسيا، حيث تبقى أصغر بالنسبة لحجم الاقتصاد الكلي، مقارنة بحجم الصناعة في الولايات المتحدة وأوروبا. وتشير تقديرات الدراسة التي أجرتها شركة التوظيف "مايكل بيغ" إلى زيادة عدد موظفي أكثر من نصف شركات التمويل في الصين بنحو 11% هذا العام، فيما كانت شركات الخدمات المالية أكثر جهات التوظيف نشاطاً في هونغ كونغ وسيحتل القطاع المرتبة الثانية في سنغافورة.
وقال اثنان من محللي التداول الكمي في أحد بنوك "وول ستريت" إن بعض صناديق التحوط وشركات إدارة الاستثمارات الأصغر في هونغ كونغ يعرضون ضعف الراتب لجذب المواهب في إطار بحثهم عن الكفاءات. كما قال أحد الأشخاص، إن شركات الاستثمار الخاصة التي تقدم حصة من الأرباح لموظفيها، كانت تبحث بشكل مكثف لدى جهات التوظيف عن مواهب صغيرة العام الماضي، ومن بينها: "باين كابيتال" و"بي إيه جي أند هيلهاوس كابيتال".
مزايا ومرونة
وفيما يتعلق بالوضع في سنغافورة، قال ليم تشاي لينغ المدير الأول في شركة التوظيف "راندستاد"، إن هناك العديد من فرص التوظيف في صناديق التحوط وشركات الاستثمار الخاصة والعديد من شركات التكنولوجيا المالية والخدمات المصرفية الرقمية.
ترك مصرفي سابق طلب عدم ذكر اسمه العمل في "اتش اس بي سي" بهونغ كونغ وانتقل للعمل كمدير صندوق العام الماضي، موافقاً على خفض راتبه الأساسي بنسبة 20%. وقال رغم زيادة راتبه الإجمالي بنسبة 70% على مدى أربع سنوات من العمل مع البنك لكنه يرغب في إدارة استثمار بنفسه.
قال جيمس كارس العضو المنتدب في شركة "إن أر جي" لتوظيف المسؤولين التنفيذيين في بريطانيا، إن الشركات الناشئة والصغيرة يمكن أن تقدم عملاً مرناً ومزايا مختلفة، ما يجعل كبار الشركات تكافح لمنافستها. وأشار "كارس" إلى أن معدل ترك الوظائف في بريطانيا أقل من آسيا بنحو ثلاثة إلى أربعة أشهر، لكنه في طريقه للحاق به.
شركات التكنولوجيا
تستنزف شركات التكنولوجيا الكبرى هي الأخرى الكوادر من البنوك. فقد غادرت شيي لين نائبة رئيس "مورغان ستانلي" الشهر الماضي للانضمام إلى إدارة الاستثمارات الاستراتيجية في مجموعة "علي بابا" وفقاً لصفحتها على "لينكدإن". كما تقوم مجموعة "آنت" المملوكة للملياردير جاك ما من خلال شركتها التابعة الأكثر قيمة "غراب هولدنغ" بإنشاء بنوك رقمية في سنغافورة.
كذلك استقال دانييل يوان المحلل السابق الذي تلقى تعليمه في جامعة "يال" من عمله في بنك "غولدمان ساكس" عام 2019 ليتولى منصب رئيس الموظفين في شركة التمويل عبر الإنترنت "فوتو هولدنغ". ورغم اكتسابه كافة خبراته عن التمويل في "غولدمان ساكس"، إلا أنه فضل الانتقال إلى حيث توجد لديه الفرصة للترقي بسرعة فائقة.
علق يوان قائلاً: "كنت أعرف بالضبط ما احتاج أن أتعلمه في غولدمان وكم أحتاج من الوقت للقيام بذلك من أجل التقدم في مسيرتي المهنية"، وأضاف: "هناك قدر كبير من المرونة حول ما يمكنني القيام به في شركة أصغر حجماً وأكثر ريادة بمجال الأعمال مثل "فوتو" وخاصة عندما أتولى منصب رئيس فريق العمل".
بدأت البنوك تلاحظ ذلك. فعلى سبيل المثال، قام "اتش اس بي سي" الذي كان يعمل لديه "لام" من قبل في ظل ما يمثله له سوق هونغ كونغ، كأكبر أسواقه من ركيزة أساسية لأنشطة البنك في آسيا، بتقديم وعود الشهر الماضي بمسار وظيفي أقصر للموظفين الجدد لتصبح الترقيات بعد ثلاث سنوات، بدلاً من أربع سنوات، إلى جانب تعهده بزيادة الأجور. يتزامن ذلك مع توسع "جي بي مورغان" في تعيين المزيد من المصرفيين المبتدئين بفريق عمله على مستوى العالم.
عمل مُجهد
ترفع البنوك رواتب الموظفين المبتدئين وتفرض سياجا حولهم وتزيد أعداد فريق العمل لمنعهم من الاستقالة وتخفيف سخطهم الذي زاد خلال الوباء نتيجة التركيز على قضايا العمل والحياة. انشغلت "وول ستريت" بشكل كبير في وقت سابق من العام بالعرض التقديمي الذي تم تسريبه من محللين صغار في بنك "غولدمان ساكس" يوضح فيه بالتفصيل أعباء العمل الشاق وساعات العمل القاسية.
رفض المتحدثون الرسميون باسم "غولدمان ساكس" و"اتش اس بي سي" وجي بي مورغان" التعليق.
قال جون مولالي المدير الإقليمي في "روبرت والترز" في هونغ كونغ: "من المرجح مغادرة صغار المصرفيين في آسيا بحثاً عن فرص وظيفية أكثر جاذبية من الناحية المالية. حيث تمثل ساعات العمل الطويلة وضغط العمل المصرفي عاملان ولكن ليس بقدر ما هو الحال مع نظرائهم في أوروبا والولايات المتحدة".
يدفع بعض المصرفيين المستمرين في عملهم ضريبة استقالة زملائهم في العمل في الوقت الذي يزدهر فيه نشاط الصفقات، فعلى مدار الاثني عشر شهراً الماضية، قفزت عمليات الاندماج والاستحواذ في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 30% بينما قفزت الاكتتابات العامة الأولية بنسبة 44% وفقاً للبيانات التي جمعتها "بلومبرغ".
قال أحد المصرفيين في "جي بي مورغان" طلب عدم ذكر اسمه، إن أعباء عمله تضاعفت بعد استقالة زميل له ليلتحق بالعمل في شركة تكنولوجيا مالية في ديسمبر الماضي، ما أدى إلى عمله 18 ساعة في المتوسط يومياً دون انقطاع لمدة شهرين تقريباً. كما قال إنه يبحث بقوة عن إيجاد وظيفة في إحدى شركات الاستثمار في الأصول المالية، حيث يوجد تسلسل هرمي أقل وفرص أكثر للتقدم الوظيفي.