إذا كان أي مبرر سيدفع محافظي البنوك المركزية المخضرمين إلى التخلي عن لغتهم المدروسة بعناية، فسوف يكون هو الحديث عن الاحتباس الحراري، إذ يتفق جميعهم تقريباً على أنه يمثّل مشكلة خطيرة.
في قمة بنك التسويات الدولية التي عُقدت الأسبوع الماضي، وكانت الحدث المناخي الأضخم حتى الآن، اجتمع كبار مسؤولي البنوك المركزية، وأطلقوا التصريحات الأكثر حدة حتى الآن بشأن الاعتراف بطبيعة الأزمة والحاجة إلى إجراءات وقائية، فيما كان قليل من الحديث عن القضايا الشائكة، مثل الحاجة إلى الوقف الفوري لتطورات الوقود الأحفوري، في حين أعرب بعض المتحدثين عن استعداده لاستخدام مشتريات السندات وأدوات السياسة النقدية الأخرى لحثّ العالم على خفض الانبعاثات.
هل يمكن أن يمثل هذا نقطة تحول؟ قد يكره محافظو البنوك المركزية تجاوز حدودهم، فيما يسارع النقاد إلى الانقضاض عليهم عندما يحدث ذلك. في الشهر الماضي جادل وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سمرز، الذي يعمل أيضاً مساهماً في بلومبرغ، بأن البنوك المركزية تركز أكثر من اللازم على مخاطر تغير المناخ "لكي تكون ذات صلة" بدلاً من الاستعداد للأوبئة المستقبلية.
مخاطر مالية
في قمة "البجعة الخضراء" التي عقدها بنك التسويات الدولية، جرى غالباً التعامل مع التغير المناخي على أنه مجرد خطر آخر، وأن كل ما يتطلبه الأمر استخدام أساليب وبيانات تحليلية جديدة، وربما بعض التعديلات على التنظيم المالي لتوحيد وتفويض سبل الإفصاح عن المخاطر. وكان هذا هو الرأي السائد منذ بدأت البنوك المركزية التفكير بجدية في الاحتباس الحراري قبل نحو خمس سنوات.
المنطق يسير على هذا النحو: المخاطر المالية المتعلقة بالمناخ ترجع إلى حد كبير إلى نقص المعلومات، لذلك فكل ما على المنظمين هو إلزام الشركات الإفصاحاتِ الصحيحة. بمجرد توافر هذه البيانات تسعّر السوق بشكل طبيعي المخاطر وتتكيف معها تبعاً لذلك، فيما يعود الأمر إلى السياسيين لوضع سياسات مثل سعر الكربون أو حظر استثمارات الوقود الأحفوري. وفي حال عدم حدوث ذلك، ليس على مسؤولي السياسة النقدية الذهاب إلى ما هو أبعد، وتطوير السيناريوهات واختبارات الضغط.
ويتعارض الإصرار بشأن الحصول على مزيد من البيانات والتحليلات مع المخاطر الحالية، إذ لا تسمح الآثار المترتبة على غازات الاحتباس الحراري المتراكمة في الغلاف الجوي بأنصاف الحلول، ولا ضمن معايير محددة بدقة لحماية الاستقرار المالي. كيف يمكن قياس تأثير طن هامشي من ثاني أكسيد الكربون المنبعث في الوقت الذي يعتقد فيه بعض العلماء أننا اقتربنا فعلياً من نقاط التحول الخطرة؟
مهام أصيلة
خلَصَت ورقة بحثية نشرها الشهر الماضي ويليام أومان الخبير الاقتصادي في صندوق النقد الدولي، ورومان سفارتزمان الذي يعمل في البنك المركزي الفرنسي، إلى أن قياس الآثار الاجتماعية والاقتصادية والمالية للهجرات الجماعية الناجمة عن المناخ والصراعات يشكل "صعوبة متأصلة"، وكتبوا: "ولو أمكن قياس المخاطر المالية المتعلقة بالمناخ، فليس من الواضح إن كان من الممكن التعامل معها".
ويخطئ السياسيون الذين يقولون إن مكافحة تغير المناخ ليست من مهامّ البنوك المركزية، فالمسؤولية الأساسية لمعظمهم هي الحفاظ على السعر والاستقرار المالي، الذي يهدّده الاحتباس الحراري العالمي مباشرةً، إذ أشار أومان وسفارتزمان إلى أنه إذا اكتفت البنوك المركزية بوضع نماذج للسيناريوهات وتطوير اختبارات الإجهاد، منتظرة من الآخرين إجراءات سياسية أقوى، فإن تهديداتالمناخ على الاستقرار المالي ستزداد.
يمكن للبنوك المركزية من خلال بعض الطرق أداء دور نشط في الحدّ من مخاطر المناخ مع البقاء في نطاق صلاحياتها. تتضمن الورقة البحثية الصادرة في يناير 2020 التي نشرها بنك التسويات الدولية بعض الاقتراحات، منها: التنسيق مع السلطات المالية والاحترازية، ودعم الإصلاحات لحماية المناخ في النظام المالي الدولي، وإجراء تغييرات على قوانين المحاسبة. يقول مؤلفو الورقة البحثية إن مثل هذه الإجراءات "سيكون من الصعب بلا شك اتخاذها"، لكنها ضرورية للحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي.
إشارات إيجابية
تتمثّل إشارات مشجعة بإدراك محافظي البنوك المركزية أن الطبيعة غير المسبوقة لمشكلة المناخ تعني أن عليهم اتخاذ إجراءات بدلاً من مجرد مراقبة البيانات والاستجابة لها.
في العام الماضي قالت عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي إيزابيل شنابل، إن البنوك المركزية "لا ينبغي أن تساهم" في مشكلة تغير المناخ، مشيرة إلى أن "المركزي الأوروبي" لا يتحمل فقط مسؤولية الاستجابة لتغير المناخ، ولكن تخفيف حدته أيضاً. من جهته يخطّط بنك إنجلترا لـ"تخضير" مشترياته من سندات الشركات، وقال محافظه أندرو بيلي في مؤتمر بنك التسويات الدولية، إن لجنة السياسة النقدية ناقشت المناخ لأول مرة.
وخلال المؤتمر أقرّ أيضاً رئيس البنك المركزي الألماني ينس ويدمان، بأن البنك المركزي الأوروبي قد يُضطرّ في النهاية إلى الحد من مشتريات السندات من قطاعات أو جهات إصدار معينة لأسباب تتعلق بالمناخ. واعتبر هذا التصريح مذهلاً، لصدوره عن عضو مجلس إدارة "المركزي الأوروبي"، الذي جادل قبل ستة أشهر فقط بأن مثل هذه المشتريات يجب أن تلتزم مبدأ "حيادية السوق".
وشككت سارة بلوم راسكين، وهي مسؤولة سابقة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في افتراضات البنوك المركزية ومنظمي السوق، بأن إعدادات أدواتهم الحالية مناسبة للتغييرات الضخمة والمكلفة الجارية على قدم وساق.
يختلف تغير المناخ عن أي من محركات الأزمات المالية الماضية، فعندما يتغير كل من الاقتصاد والمناخ في وقت واحد، فعلينا إعادة التفكير في إدارة المخاطر وحيادية السوق. ويشكّك محافظو البنوك المركزية، الذين تعمقوا في هذه القضية، دائماً في كفاية النهج المعتاد.
لديهم حجة متماسكة لاتخاذ إجراءات أقوى، إذ لا يتعين على المسؤولين التنصل من مسؤولياتهم المناخية بشأن اتهامات تتعلق بالتقويض أو حدود التفويضات أو المطالب بتحليل بالغ الدقة يكون غير مُجدٍ، هذه أمور قد لا يستوعبها أبداً اقتصادي كبير مثل لاري سمرز، وحتى السياسيون المحافظون قد يستوعبونها بدرجة أقلّ، لكن لحسن الحظّ فإن هذا لا يهمّ.