في 18 فبراير من عام 1522، ابتكر تاجر ملابس مستعملة يُدعى "جيرونيمو بامبارارا" في منطقة "ريالتو" المزدحمة في "البندقية" طريقة جديدة لتصفية مخزونه.
لعبة "اليانصيب"
فبدلاً من بيع بضاعته مباشرة مقابل المال، قرر إدخال العملاء في سحب "اليانصيب"؛ ومقابل تذكرة بقيمة ليرة واحدة، قد يربح المشتركون أكثر من ألف ضعف هذا المبلغ نقداً، أو يحصلون على جوائز من السجاد، أو القماش الذهبي، أو الأقمشة، أو العنبر، أو الحيوانات.
وفي الحقيقة، كان العرض ناجحاً جداً، وفي غضون أسبوع، كان عدد الأشخاص الذين يراهنون على حظوظهم يشبه الحشود في احتفال عيد الصعود الديني، وذلك وفقاً لكاتب يوميات معاصر، حيث قال: "في الوقت الحالي في منطقة "ريالتو" هذه، لا يفعل الناس شيئاً سوى دفع المال للدخول في سحب اليانصيب".
إلا أن الأمر لم يدم؛ فبعد 10 أيام فقط من بدء اللعبة، حظرت السلطات القلقة في "البندقية" ألعاب اليانصيب الخاصة. وكانت خطوتها التالية متوقعة بنفس القدر. فعقب القضاء على عملٍ خاص مربح، حولته المدينة إلى شركة عامة، وبدأت في إصدار بطاقات اليانصيب لزيادة إيرادات الدولة.
تقلبات "بتكوين"
وهذا درس حول كيفية تطور العملات المشفرة على مدى السنوات المقبلة، حيث يؤدي الاستخدام الأكثر انتشاراً إلى تضخيم احتمالية حدوث عواقب عامة سلبية.
وبالنظر إلى تراجعها وارتفاعها بمبالغ مكونة من رقمين في غضون ساعات، تخلت "بتكوين" إلى حد كبير عن أي ادعاء بأنها يمكن أن تمثل تحدياً للدولار كشكل من أشكال العملة. فحتى البوليفار الفنزويلي والدولار الزيمبابوي المتضخمان بشكل مفرط يظهران تقلباً أقل في الأسعار.
ومع ذلك، يشهد استثمار 1.7 تريليون دولار في العملات الرقمية على أن العملة المشفرة ما تزال تحظى بشعبية كبيرة كاستثمار مضارب، تماماً كما كانت تذاكر يانصيب "بامبارارا" قبل خمسة قرون.
صفقة مع "الدولة"
ما من شكٍ أنه في حال أرادت "بتكوين" وأمثالها البقاء في عصرٍ أصبحت فيه سلبياتها أكثر وضوحاً – بدءاً من انبعاثات الكربون وصولاً إلى هجمات برامج الفدية - فسوف تحتاج إلى إيجاد طريقة لخيانة جذورها التحررية وعقد صفقاتها الخاصة مع الدولة.
في الحقيقة، فإن المقامرة والحالة المالية مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما البعض. وليس من قبيل الصدفة أن نشأت أولى ألعاب "اليانصيب" الحديثة في "البندقية"، وهي المدينة التي أصدرت أولى السندات السيادية.
كما تحول جزء كبير من اقتصاد "البندقية" إلى التكهنات والمضاربة حول مصير مشاريع الشحن؛ حيث تدور إحدى نقاط الحبكة الرئيسية لمسرحية شكسبير "تاجر البندقية" حول "تحطم إحدى سفن التاجر الشهير في البحار الضيقة"، مما تسبب في تخلفه عن سداد قرض.
انتشار "القمار"
والجدير بالذكر أن جنون القمار انتشر عبر أوروبا مع ارتفاع الدخل، وغالباً ما رفضته السلطات الدينية، إلا أن الحكومات تسامحت معه أو تغاضت عنه. وعندما تم افتتاح أول كازينو في العالم في "ريدوتو" في البندقية عام 1638، تمت المصادقة عليه من قبل المجلس الأعلى الحاكم كمحاولة لتنظيم والإشراف على العديد من نوادي ألعاب الورق الخاصة التي ظهرت؛ حيث تم ربح الكثير من الثروات الكبيرة وخسارتها على طاولات اللعب.
كما يُقال إن مخترع لعبة "الباست"، وهي لعبة البوكر التي كانت تلعب في "ريدوتو"، قد نُفي إلى "كورسيكا" كعقوبة له.
لم يردع أي من ذلك اللاعبين؛ حيث رسم الفنان الإيطالي "كارافاجيو"، والفلمنكي "ثيودور رومبوتس"، والفرنسي "جورج دو لا تور"، مشاهد شهيرة للعب الورق، والتي غالباً ما أكّدت على مقدار الغش الذي حدث.
ومن الواضح أن هناك سوقاً جاهزاً لمثل هذه المشاهد، حيث كان كل من الفن والمقامرة من التسلية الشعبية للأثرياء في القرن السابع عشر في أوروبا؛ ولهذا الموقف أيضاً أوجه تشابه مع الجنون الحالي لفن الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT).
الحكومات تغض البصر طالما كانت مستفيدة
الجدير بالذكر، أنه تم تنفيذ نفس النمط في شمال أوروبا. فقبل أن يتم تمويلها عن طريق إصدار السندات السيادية، تم سداد الدين الوطني لبريطانيا في أواخر القرن السابع عشر من خلال عائدات "اليانصيب" والتأمين التكافلي؛ حيث أدت محاولة مبكرة لتوحيد هذه القروض وسدادها عن طريق عائدات تجارة الرقيق إلى إنشاء شركة بحر الجنوب، مما أدى إلى واحدة من أولى الفقاعات المالية الكبرى للمضاربة.
الدرس المستفاد من كل هذا هو أن الدولة الحديثة يمكن أن تكون متسامحة بشكلٍ ملحوظ مع الناس الذين يربحون ويخسرون الثروات، طالما أنها تحصل على بعض الفوائد.
ويمكن أن يأتي ذلك على شكل حصة من عمليات الاستحواذ؛ أو إجراء للسيطرة على المخاطرة الفوضوية بخلاف ذلك؛ أو حتى وظائف تخصيص رأس المال التي توفرها الأسواق المالية.
ومع ذلك، في حال غياب هذه الفوائد، ينفد صبر الحكومات مع اضطراب المضاربات غير المقيدة، وتبدأ باتخاذ إجراءات صارمة.
مقاومة سيطرة الحكومة
وما يميز العملات المشفرة هو الطريقة التي يتم بها إدراج مقاومتها لرابطة السلطة السياسية والمالية التقليدية في التعليمات البرمجية الخاصة بها. فعملة "بتكوين" هي "جذابة للغاية لوجهة النظر التحررية"، بحسب ما كتبه منشئها الذي يحمل الاسم المستعار "ساتوشي ناكاموتو" في منشور عام 2008. وفي الواقع، فقد حصلت العملة المشفرة، المجهولة المصدر والمنفصلة عن النظام المصرفي المعتمد من قبل الدولة، على أحد معززاتها المبكرة بوصفها طريقة لا يمكن تعقبها لشراء العقاقير غير القانونية على الإنترنت.
وحتى يومنا هذا، فإن وظيفتها الأكثر فائدة، خارج المقامرة البسيطة على سعرها، هي كعملة للأنشطة غير المشروعة.
كما أن هذه الحساسية للسيطرة الحكومية تجعلها مختلفة اختلافاً جوهرياً عن أنشطة المضاربة العديدة الأخرى التي تم التسامح معها على مرِّ القرون، والتي أسهمت في تدفق الثروات على قلة محظوظة وإفلاس الآخرين.
وبالنسبة إلى الليبرتاريين الرقميين، بدا ذلك لفترة طويلة وكأنه سمة رئيسية للتكنولوجيا. ولكن مع ارتفاع التكاليف الاجتماعية والاقتصادية للتسامح مع العملات المشفرة، قد يبدو الأمر وكأنه خطأ أكثر فأكثر.
السلام مع الحكومات
ما من شكٍ أنه في اللحظة التي تقرر فيها الحكومات أن الإزعاج وزعزعة الاستقرار التي تسببها العملات الرقمية هما قضيتان كبيرتان للغاية، فإنها ستمنع المؤسسات المالية من استبدالها بالعملات الورقية بقوة مثلما تفرض الولايات المتحدة عقوبات على أعدائها الجيوسياسيين.
وهذا الاحتمال، الذي كان بعيداً فيما مضى، يبدو أكثر فأكثر احتمالاً في عصرٍ يمكن فيه احتجاز إمدادات الوقود الأمريكية كرهينة مقابل 5 ملايين دولار من العملات المشفرة.
ومن خلال إنشاء نظام دفع فعَّال نسبياً للنشاط غير المشروع، قلّلت العملات الرقمية بشكلٍ كبير من تكلفة الجريمة. وهذا ليس نوع التحدي الذي يمكن أن نتوقع من الدولة الحديثة أن تواجهه. وفي حال لم تجد العملات المشفرة طريقة لتحقيق السلام مع الحكومات التي أُنشئت هذه العملات للتحايل عليها، فسوف تجد نفسها محطمة في النهاية.