من المؤكَّد أنَّ الأطفال الصغار يبدون بغاية الظرف، وهم يتعلمون كيفية التعامل مع النقود للمرات الأولى عند شراء الآيس كريم، وحساب الأموال، وإعادة البقية لنا. ولكن قد لا يبدو المستقبل بهذا الظرف، عندما تكون محاطاً بالآلات التي تحتاج إلى مراقبتك لتتأكَّد أنَّها تقوم بالعمليات المالية بالطريقة الصحيحة. على سبيل المثال، عليك التأكُّد من أنَّ الثلاجة في مطبخك تخزِّن الخضروات المناسبة بكميات صحيحة، وذلك قبل أن تقوم بالدفع لإجراء عملية شراء جديدة مع روبوت توصيل الخضار.
وسيتطلَّب منا ذلك مهاماً يومية مع كل جهاز من الأجهزة المتصلة بالإنترنت لدينا، والبالغ عددها 15 جهازاً منزلياً، وسيعني هذا أنَّنا لن نفعل شيئاً آخر غير مراقبة أجهزتنا في مستقبل "إنترنت الأشياء" هذا، والتأكُّد من قيامها بالعمليات الصحيحة.
دعم النظم القانونية
وحينها لن يكون للنظام المالي التقليدي أي فائدة إضافية تذكر. إذ سيكون بإمكان البنوك تسوية المدفوعات السريعة، تماماً كما سيكون بإمكان الوسطاء وغيرهم من الحاصلين على دعم النظم القانونية، جعل أجهزتنا تفي بالالتزامات المالية وتنفِّذها.
ولكن عندما يتعلَّق الأمر بسداد المدفوعات المتعلِّقة بتسليم منتج أو الحصول على خدمة أو أصل من الأصول، فإنَّ التكنولوجيا الحالية ستصبح أمراً مرهقاً، خاصة حينما تصبح كل الأجهزة متصلة بكل شيء.
وهنا يأتي دور المال الذكي أو القابل للبرمجة. إذ ستحسب أحد خطوط رموز التشفير التي تعمل على أساس "تقنية السجل الموزع" (DLT) مبلغ الدفع الصحيح. مثل رموز الـ"بلوكتشين" الخاصة بالـ"اثيريوم". وستضمن أيضاً وضع شروط لتحويل المبلغ أو القيمة من طرف إلى آخر. وسيتمتَّع المال نفسه بهذه القدرات، ولن نكون بحاجة إلى النظر بعيداً للبحث عمَّن يقوم بتوفير هذه التكنولوجيا لنا.
العملات الرقمية الصادرة عن السلطات النقدية
وقد كانت عملة "الساند دولار" التي أطلقها البنك المركزي في جزر البهاما، أوَّل عملة رقمية في العالم يصدرها بنك مركزي، إلا أنَّها لن تبقى العملة الرقمية الوحيدة لفترة طويلة، إذ تستعد الحكومات حول العالم بدءاً من الصين إلى السويد لتقديم عملتها الإلكترونية.
وشكَّلت بريطانيا فريق عمل لبحث فكرة "بريتكوين"، وفي حال تمَّ تنفيذها لن يكون من المستغرب أن نرى بعدها اليورو الرقمي، و"الفيدكوين" الأمريكي.
ولكن هناك أمور يجب الحذر منهما خلال هذه التجارب، إذ تخشى بعض البنوك المركزية التأثير المتزايد للعملات المشفَّرة مثل "بتكوين"، في حين يشعر آخرون بالقلق إزاء القوة السوقية المتزايدة لشركات التجارة الإلكترونية، والمدفوعات المالية التي تحصل على كم بيانات من مليارات المعاملات المالية التي تجريها. أما المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة المالية العالمية، فهذا أمر آخر يدفع للحذر. ولكن في خضم كل هذا، يتساءل المستخدمون الحائرون: "ما الذي أستفيده أنا من كل هذا؟"
الجواب باختصار هو: اسأل سيارتك المستقبلية؛ إذ قد تتحقق الفائدة الحقيقية للعملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي عندما تدفع آلة متصلة بالإنترنت المال لآلة أخرى دون الحاجة إلى طلب إذن منك في كلِّ مرة.
وفي الحقيقة، نحن نفكر بالأموال التي ننقلها من حساب التوفير إلى المحفظة الرقمية على أنَّها نقد. وعلى الرغم من أنَّ الأموال من الدولارات أو الجنيهات أو الين التي يتمُّ إنفاقها هي مسؤولية مُشغِّل المحفظة، إلا أنَّها مهمة تصفية "سندات إقرار الدين" (IOU) الخاصة بالمُشغِّل، أو البنك الخاص به، ترجع إلى الجهة السيادية.
وتؤدي السلطات النقدية هذه الوظيفة عن طريق خصم المبالغ من حساب وتحويلها إلى حساب آخر. وبهذه الطريقة تتمُّ تسوية معاملة الدفع رقمياً لحساب ما لتصبح دائمة، وتضاف إلى الحساب. ولكن مع التحوُّل لاستخدام النقد الرقمي الصادر عن السلطات الحكومية، سوف تنتقل مسؤولية الأموال، ببساطة من المُشغِّل إلى البنك المركزي.
وحتى هواة صفقات التسويات الإجمالية الآنية التي تتمُّ وراء الكواليس، لن يجدوا النقد الرقمي مختلفاً كثيراً في الحياة اليومية، عمَّا اعتدنا عليه بالفعل عند التعامل مع الأموال.
مستقبل "إنترنت الأشياء"
وفي غضون خمس أو 10 سنوات قد تتغير حياتنا. فقد يتمُّ نقلنا في سيارات ذاتية القيادة تحتاج إلى التوقف والتزود بالوقود بعد إيصالنا. وعلينا أن نفكر، هل نريد حقاً تلقي رسائل مزعجة من مصرفنا ونحن في منتصف اجتماع مثلاً ؟، ليطلب منا التحقق من صحة المدفوعات في محطة الوقود التي أنفقناها أو ساحة انتظار السيارات؟ وسيتطلَّب الأمر رسالة نصية عاجلة أخرى من كمبيوتر السيارة لتؤكِّد لنا أنَّها تحصل على الخدمة التي ندفع مقابلها، وتطلب منا الضوء الأخضر لإكمال دفع 23.65 دولاراً، وهذا كلُّه سيشكِّل عملاً إضافياً لنا.
ومن الممكن رؤية كيف يمكن للمال القابل للبرمجة تبسيط حياتنا. وقد بحث تقرير مجموعة عمل أجراه "باندزبانك"، تسع حالات استخدام محتملة لبرمجة الأموال، بدءاً من استرداد الأوراق المالية المستحقة بتاريخ معين، إلى المدفوعات غير المتصلة بالإنترنت والتحويلات عبر الحدود، والمعاملات من آلة إلى أخرى.
وقد ارتقى التمويل التقليدي في بعض الحالات إلى مستوى التحدي من خلال دمج العقود الذكية المستندة لتكنولوجيا "بلوكتشين" في إجراءات العمل. ويمكن للعملات المُشفَّرة أيضاً القيام بهذه المهمة، إلا أنَّها قد تكون "غير مناسبة من الناحية العملية بسبب تقلُّباتها، وقابلية التشغيل البيني المحدودة لها، والمسائل القانونية"، بناءً على ما أفادته الدراسة.
ويمكن للمقرضين التجاريين إصدار أموالهم الرمزية الخاصة بهم، على الرغم من "أنَّ تحويل مبالغ كبيرة بين حسابات عملاء البنوك التجارية المختلفة قد يكون محفوفاً بالمخاطر".
العملات الرقمية الذكية
وبالتالي، قد يكون من العملي أكثر بالنسبة للبنوك المركزية أن تجعل عملاتها الرقمية ذكية. ويمكن للقطاع الخاص تولي القيام بعملية البرمجة. ويمكن للأموال التي تضعها في محفظة السيارة مثلاً، التكفُّل بتغطية تكاليف الوقود، ومواقف السيارات، ورسوم المرور. كما يمكن لتطبيق الثلاجة خصم سعر منتج ما، بعد كشفه أنَّ متجر البقالة عبر الإنترنت نسي إرساله، ويمكنها دفع باقي الفاتورة بسلاسة.
وقد يكمن العيب أو الثغرة في كل هذا في احتمالية أن يكبر أطفالنا، وهم لا يعرفون كيف يعدّون الأموال، ويحسبون الباقي. ولكن بما أنَّ المربية الروبوت تشتري لهم الآيس كريم في المهرجانات، وهي قادرة على دفع ثمن الأيس كريم لهم قبل ذوبانه، فلا توجد أسباب كثيرة تدفعنا للشكوى.