دخلت البنوك المركزية الكبرى في العالم المتقدم مرحلة جديدة من تنفيذ سياسة "التشديد الكمي" بشكل مشترك لأول مرة، بعد سنوات من عدم اليقين المتكرر طوال العقدين الماضيين.
اقرر بنك اليابان الشهر الماضي تقليص حيازاته من السندات تدريجياً على مدى الأعوام المقبلة، مما يعني انضمامه الآن إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا في عملية تقليص الميزانية العمومية. وعلى الرغم من أن سياسات التشديد الكمي تختلف بين هذه البنوك، إلا أنها تشترك في سحب السيولة التي ضختها خلال أزمة جائحة كورونا عبر شراء السندات.
عندما نفذ الاحتياطي الفيدرالي برنامج التشديد الكمي لأول مرة، واجه صناع السياسة اضطرابات غير متوقعة في أسواق المال خلال 2019. ورغم تأكيد رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، أن البنك تعلم من تلك التجربة وتعهد بوقف العملية قبل تفاقم المشاكل، لا توجد ضمانات بسلاسة التنفيذ هذه المرة، خاصة مع نقص السيولة العالمية الذي يواجهه المستثمرون.
وقال ستيفن بارو، الذي عمل كمحلل استراتيجي في مجال الصرف الأجنبي والدخل الثابت لأربعة عقود ويشغل حالياً منصب رئيس استراتيجية مجموعة العشرة لدى "ستاندرد بنك" في لندن، إن "المشاكل ربما تنشأ مجدداً في الاحتياطي الفيدرالي، بينما لم تُختبر البنوك المركزية الأخرى بعد بهذا السياق".
كم سيستغرق التشديد الكمي؟
يتوقع العديد في وول ستريت أن يستمر برنامج التشديد الكمي للاحتياطي الفيدرالي لبضعة أشهر فقط، مع تحول البنك المركزي الأميركي إلى خفض أسعار الفائدة لدعم الاقتصاد. وبالفعل، خفض الفيدرالي في يونيو الماضي وتيرة تقليص محفظة سنداته.
أكد "العديد" من صُناع السياسات في اجتماع السياسة النقدية الشهر الماضي على أهمية مراقبة ظروف سوق المال مع استمرار الفيدرالي في تقليص ميزانيته، وفق ما أظهره محضر الاجتماع الصادر يوم الأربعاء.
في الواقع، عززت مؤشرات حديثة توضح ظهور ضغوط في أسواق التمويل، التوقعات بإنهاء الفيدرالي لبرنامجه للتشديد الكمي قريباً. كما كتب بارو في مذكرة حديثة للعملاء أن عمليات البيع المكثفة في أسواق الأسهم العالمية، التي بلغت ذروتها في 5 أغسطس مع أسوأ انحدار منذ 2020، قد تكون إشارة تحذيرية للتداعيات المحتملة لهذا التشديد.
وأشار بارو إلى أن "شراء البنوك المركزية للسندات خلال الأعوام الماضية زود الاقتصادات بالسيولة النقدية، واستخدم جزءاً من هذه السيولة للاستثمار في أصول أكثر خطورة مثل الأسهم. لكن مع تقليص البنوك المركزية لحيازاتها من هذه الأصول الآن، يواجه المستثمرون تحديات جديدة".
تجربة أميركا وبريطانيا
في عام 2019، شهدت الولايات المتحدة نقصاً حاداً في التمويل في سوق اتفاقيات إعادة الشراء الحيوية، مما دفع الاحتياطي الفيدرالي إلى تعديل سياسته النقدية بشكل مفاجئ. هذه التجربة تمنح العديد من مراقبي البنوك المركزية الثقة في أن صناع السياسات سيقومون بتعديل سياسات الميزانية العمومية حسب الحاجة لتجنب أي تهديد كبير للاستقرار المالي.
تقدم المملكة المتحدة دراسة حالة حديثة؛ ففي عام 2022، أرجأ بنك إنجلترا بدء برنامجه لبيع السندات بسبب اضطرابات في سوق السندات البريطانية، التي نشأت عن الخطط المالية لرئيسة الوزراء السابقة ليز ترَس. كانت التقلبات شديدة لدرجة أن البنك المركزي اضطر إلى شراء السندات مجدداً بموجب التفويض لديه للحفاظ على الاستقرار المالي.
بعد انحسار أسوأ الاضطرابات، استأنف بنك إنجلترا برنامجه لبيع السندات، لكنه استثنى في البداية الديون طويلة الأجل التي كانت أكثر عرضة للتقلبات السوقية، مما يشير إلى أن برامج التشديد الكمي قد يتم تعديلها للحد من تأثيرها على السوق.
وقالت سايوري شيراي، عضو مجلس إدارة بنك اليابان السابقة: "صحيح. جميع البنوك المركزية التي نفذت التيسير الكمي في الماضي تنفذ الآن تشديداً كمياً. ورغم عدم وضوح الحجم المناسب للميزانيات العمومية، تدرك الأسواق أن البنوك المركزية ستوقف أو تعدل برامجها للتشديد الكمي إذا دعت الحاجة، كما حدث خلال اضطرابات الميزانية المصغرة في المملكة المتحدة في أكتوبر 2022".
دعوات وقف التشديد الكمي
وأشارت سايوري شيراي، أستاذة الاقتصاد بجامعة كيو في طوكيو، إلى أن العديد من البنوك المركزية بدأت الآن في خفض أسعار الفائدة، مما قد يخفف الضغوط التي قد تهبط بأسعار السندات بسبب برامج تقليص شراء البنوك المركزية للسندات (التشديد الكمي).
تمر البنوك المركزية الرئيسية في الاقتصادات المتقدمة بمراحل مختلفة من التشديد الكمي، وسط توقعات واسعة بأن يتخلى الاحتياطي الفيدرالي عن برنامجه في الأشهر المقبلة، بينما بدأ بنك اليابان للتو في تنفيذ مبادرته الخاصة.
ورغم أن الاحتياطيات المصرفية المودعة لدى الاحتياطي الفيدرالي تقدر بحوالي 3.3 تريليون دولار وتبدو كبيرة، إلا أن بعض المشاركين في السوق يحذرون من مخاطر تكرار المشاكل التي حدثت قبل خمسة أعوام، مما يعزز الدعوات لإنهاء التشديد الكمي قريباً. وفي حال ظهور ضغوط تمويلية حادة بشكل مفاجئ، يمتلك الفيدرالي الآن آليات لدعم السيولة لم تكن متاحة في 2019 للتعامل مع مثل هذه الأزمات.
في أوروبا، أوقف البنك المركزي الأوروبي إعادة استثمار بعض السندات عند استحقاقها، على الرغم من استمراره في الحفاظ على جزء من حيازاته. وفي وقت سابق من هذا العام، وافق المسؤولون على إطار سياسي جديد يتضمن إنشاء محفظة "هيكلية" تهدف إلى توفير السيولة للنظام المالي، بالإضافة إلى عمليات الإقراض.
تدخّل بنك كندا وحزم بنك إنجلترا
على غرار الاحتياطي الفيدرالي، يقوم بنك كندا بتقليص ميزانيته العمومية منذ أكثر من عامين، لكن هذا البرنامج أثر سلباً على أداء أسواق التمويل قصيرة الأجل هذا العام، مما دفع البنك إلى التدخل بشكل دوري لتخفيف تلك التأثيرات. ومع ذلك، صرحت نائبة محافظ بنك كندا، كارولين روجرز، الشهر الماضي أن البنك سيواصل سياسة التشديد الكمي حالياً لأن الميزانية لم تصل بعد إلى مستوياتها الطبيعية.
في المقابل، يبدو أن بنك إنجلترا أكثر حزماً في تطبيع ميزانيته العمومية، حيث اعتمد نهجاً أكثر قوة من خلال بيع حيازاته من السندات بشكل مكثف، بدلاً من مجرد تقليل إعادة استثمار الأوراق المالية المستحقة. ولمواجهة أي مشاكل تتعلق بالسيولة في السوق، يشجع البنك البنوك التجارية على استخدام تسهيلات الإقراض للحصول على السيولة النقدية من بنك إنجلترا حسب الحاجة، وهو ما يُعرف بالنظام القائم على الطلب.
تعليقاً على الأمر، قال جاكوب ليتشوا، مدير المحفظة في شركة "توينتي فور أسيت مانجمنت" (TwentyFour Asset Management): "نرى أن بنك إنجلترا هو الأكثر تصميماً على اتباع نظام الاحتياطيات المدفوعة بالطلب. في النهاية، نعتقد أن السوق ستتكيف مع فكرة تقديم البنوك المركزية التمويل مباشرة للقطاع المصرفي كجزء من العمليات الطبيعية".
وفيما يتعلق باليابان، فهي حديثة العهد بسياسة التشديد الكمي. فقد أعلن بنك اليابان الشهر الماضي عن برنامج يهدف إلى تقليص مشترياته من السندات، متوقعاً أن تنخفض حيازاته بنسبة تتراوح بين 7% و8% في أقل من عامين، مع الأخذ في الاعتبار حجم السندات المستحقة. وتقدر "سيتي غروب" أن هذا الانخفاض سيصل إلى 10 تريليونات ين (حوالي 69 مليار دولار) بحلول نهاية مارس 2025. وتعهد بنك اليابان بالمرونة في تنفيذ البرنامج ومراجعته في يونيو المقبل.
إنذار التقلبات
مع ارتفاع مستويات الديون العامة بشكل كبير خلال الجائحة، يرى بعض المراقبين أن هناك خطراً من أن تضغط الحكومات على البنوك المركزية لتخفيف التشديد الكمي بهدف الحفاظ على دعمها لأسواق السندات الحكومية.
في هذا السياق، قال ستيفن جين، الرئيس التنفيذي لشركة "يوريزون إس إل جيه كابيتال" (Eurizon SLJ Capital): "معظم الحكومات، إن لم يكن كلها، بحاجة ماسة إلى التمويل العام وإصدار الديون". وأضاف متسائلاً: "كيف يمكن للبنوك المركزية أن تنفذ بالكامل خطط التشديد الكمي في ظل هذه الرياح المعاكسة من إصدارات الديون الكبيرة؟".
سيكون تنفيذ برنامج التشديد الكمي بشكل كامل أكثر صعوبة إذا كانت الأسواق تعاني من اضطرابات. وأشار جيروم جان هايجيلي، وهو مسؤول سابق في البنك الوطني السويسري وصندوق النقد الدولي، إلى أن التحركات السعرية الكبيرة في الين والأسهم العالمية في بداية هذا الشهر "يجب أن تكون بمثابة إنذار، فقد عادت التقلبات".
وتوقع هايجيلي، كبير الاقتصاديين في معهد "سويس ري" بزيورخ، أن "التشديد الكمي العالمي سيواصل على الأرجح إثارة مزيد من التقلبات في أسواق المال إذا استمر حتى عام 2025".