حاولت البنوك المركزية العالمية منذ بداية العام الجاري الموازنة بين خطر استمرار التضخم المرتفع واحتمال دفع الاقتصادات إلى الركود، لكن صناع السياسات النقدية يواجهون الآن تحدياً جديداً يتمثل في تقلب الأسواق المالية.
أظهرت ردود الفعل الأولية العالمية على موجة البيع التي شهدتها أسواق الأسهم يوم الإثنين أن المسؤولين لم يُصابوا بحالة ذعر بالغ، حيث أبقى البنك المركزي الأسترالي أمس على أسعار الفائدة دون تغيير عند أعلى مستوى منذ 12 سنة، ورفض فكرة إجراء تخفيضات عليها خلال الشهور المقبلة. فيما أشارت ماري دالي، رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في سان فرانسيسكو، مساء أمس الأول إلى أن تخفيضات أسعار الفائدة ستأتي خلال "الفصول المقبلة"، ولفتت إلى أن الأسواق تبالغ أحياناً في التحرك نحو اتجاه واحد.
كما عقد بنك اليابان المركزي ووزارة المالية والجهاز الرقابي المالي اجتماعاً أمس لمناقشة تطورات الأسواق، وأصروا على وجهة نظرهم بأن الاقتصاد الياباني آخذ في التعافي.
اضطرابات مستمرة في سوق الأسهم
انتعشت الأسهم أمس من طوكيو إلى نيويورك، رغم تحذير بعض المستثمرين من أن الاضطرابات لم تنته بعد. كما "يُتوقع حدوث تقلبات شديدة عبر كافة الأسواق مع هيمنة مشاعر الخوف" إلى حين ظهور بيانات أكثر دقة تبين أن الولايات المتحدة الأميركية لم تبدأ الإنزلاق إلى الركود، حسبما قال خبرء استراتيجيون مختصون بتطورات الأسواق العالمية في مؤسسة "براون براذرز هاريمون" (Brown Brothers Harriman).
في ضوء ذلك، قد تشكل الظروف المالية الأكثر تشدداً عقبة جديدة أمام النمو الاقتصادي. كما أن انخفاض معدلات التضخم يشير إلى تأثير أكبر لأسعار الفائدة المرتفعة التي تفرضها البنوك المركزية. وقد تؤدي تقلبات الأسواق الحالية إلى اتخاذ إجراءات نقدية أكبر وربما لعدة مرات مع اقتراب نهاية العام.
ذكر جيمس نايتلي، كبير خبراء الاقتصاد الدوليين في شركة "آي إن جي فاينانشال ماركتس" (ING Financial Markets): "ما يزال تدفق الأخبار يشير إلى إمكانية حدوث سيناريو الهبوط السلس. لكن لتحقيق ذلك، ستحتاج البنوك المركزية حول العالم -وليس فقط الفيدرالي الأميركي- لتخفيض أسعار الفائدة إلى مستوى أكثر حيادية، وبطريقة أسرع مما كانت تقترح سابقاً".
من بين محفزات هبوط أسواق الأسهم صدور تقرير الوظائف الأميريكية الأضعف من المتوقع لشهر يوليو الماضي الذي دعم الرواية القائلة بأن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول وزملاءه أخطأوا في عدم تخفيض أسعار الفائدة بالفعل في اجتماع 30-31 يوليو الماضي. ربما يساعد تقرير مبيعات التجزئة لشهر يوليو المنصرم المقرر صدوره غداً في استقرار ثقة المستثمرين، كما كتب الخبراء الاستراتيجيون العالميون في "براون براذرز" بقيادة وين ثين في مذكرة للعملاء أمس.
معايير الإقراض
أظهر استطلاع رأي لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أمس الأول شمل كبار مسؤولي الإقراض أن عدداً أقل من البنوك شدد معايير الإقراض في الربع الأخير، بينما توقف تدهور الطلب على القروض التجارية والصناعية.
كتب مايكل إيفري، الخبير الاستراتيجي العالمي في مصرف "بنك رابوبانك" (Rabobank)، أمس الأول: "يريد الفيدرالي الأميركي هو التخلص من ارتفاعات الأسهم المبالغ فيها بعد مكاسب 20% تقريباً للعام الحالي حتى منتصف يوليو الماضي".
رغم ذلك، فإن أي تراجع مستمر في الأصول الأكثر مخاطرة يمكن أن يقوض شهية الشركات للتوظيف واستعداد المستهلكين لمواصلة الإنفاق، ما يفاقم خطر الركود الاقتصادي. في توقيت ما، جرى محا نحو 6.4 تريليون دولار من أسواق الأسهم العالمية على مدى ثلاثة أسابيع.
قال روبرت سوكين، كبير خبراء الاقتصاد العالميين في بنك "سيتي غروب": "قد تصبح سردية النشاط الضعيف ومخاوف الركود أخذة في التصاعد ذاتياً. بينما قد يكون هذا التوقيت مختلفاً، كثيراً ما أظهر الاقتصاد العالمي قدرة ملحوظة على الصمود كما هو الحال هذه الدورة. وجود المزيد من هذه التحديات لن يكون أمراً مفاجئاً للغاية في هذه المرحلة".
تظهر العقود المستقبلية لأسعار الفائدة أن المضاربين يتوقعون في الوقت الراهن تيسيراً نقدياً بمقدار نقطة مئوية كاملة على الأقل من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مع حلول نهاية السنة الحالية. كما عزز المستثمرون رهانات تخفيض أسعار الفائدة من بنك إنجلترا المركزي والبنك المركزي الأوروبي، اللذين خفضا أسعار الفائدة الأساسية بالفعل مرة واحدة السنة الجارية.
ذكر روب سوبارامان، رئيس بحوث الأسواق العالمية في شركة "نومورا" الذي عمل سابقاً في مصرف "ليمان براذرز" إبان الأزمة المالية خلال 2008، أن مزيجاً من تباطؤ النمو الاقتصادي واستمرار أسعار الفائدة مرتفعة والتقييمات السوقية العالية وتقلبات ثقة المستثمرين المفاجئة تشكل بيئة "يمكن أن تشهد حالة انهيار".
ضغوط النظام المالي
حذر من أن "هذه بيئة يمكن أن تبدأ فيها حالات التخلف عن السداد في التفاقم بصورة كبيرة، وهو ما يمكن أن ينعكس على الاقتصاد بالسلب. لم نواجه ذلك بعد. لكني أشعر أن البيئة أصبحت أكثر ملاءمة نوعاً ما لبدء تعرض النظام المالي للضغوط".
شهدت الدورة الاقتصادية الحالية بالفعل أزمات مفاجئة تقودها تحركات السوق. ربما تُعيد مخاوف من هذا النوع للأذهان ما جرى خلال مارس 2023 على سبيل المثال، عندما انهارت بعض البنوك الأميركية الإقليمية تحت وطأة ارتفاع تكاليف الاقتراض، ما أدى إلى أزمة ثقة على نطاق أوسع، انتهت بانهيار بنك "كريدي سويس".
في الوقت الحالي، يُصر المراقبون، بمن فيهم ماكس كيتنر، كبير الخبراء الاستراتيجيين للأصول المتعددة في بنك "إتش إس بي سي" على أن العوامل الأساسية للاقتصاد العالمي لم تتغير فعلياً، ولا يوجد مبرر للشعور بالقلق.
اختتم كيتنر خلال مقابلة على محطة بلومبرغ التلفزيونية: "لا نتوقع أن تنهار الأوضاع بطريقة مفاجئة، وفي الواقع، عندما ننظر إلى معظم مؤشراتنا الاقتصادية الرائدة العالمية، ومؤشرات الولايات المتحدة الأميركية الرائدة، فإن غالبيتها إما ثابت أو ما يزال في تصاعد. ربما ينبغي علينا أن نهدأ قليلاً بشكل جماعي".