يتزايد شعور المستثمرين بالتفاؤل بقرب انطلاق موجة ارتفاع جديدة في سندات الخزانة بالولايات المتحدة، غير أن مؤشراً من المؤشرات الرئيسية في سوق السندات يطلق في نفس الوقت إشارات تثير القلق عند أي شخص يفكر في الاستثمار فيها.
نبدأ أولاً بالأخبار الإيجابية. فمع اقتراب منتصف عام 2024، توشك سندات الخزانة الأميركية على تعويض جميع خسائرها خلال العام، حيث ظهرت أخيراً علامات على هدوء سوق العمل، وتراجع معدل التضخم تراجعاً حقيقياً.
ويراهن المتعاملون الآن على أن ذلك الهدوء والتراجع، ربما يكفي لأن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في خفض أسعار الفائدة قريباً في شهر سبتمبر.
إلا أن وجهة نظر تنتشر في الأسواق حالياً ربما تحد من قدرة البنك المركزي على خفض أسعار الفائدة، وبالتالي تشكل عقبة أمام السندات.
ويرى أصحابها أن ما يطلق عليه سعر الفائدة المحايد في الاقتصاد – وهو نظرياً مستوى تكلفة الاقتراض الذي لا يحفز النمو ولا يؤدي إلى تباطؤه – أعلى كثيراً مما يتوقع صناع السياسة النقدية في الوقت الحالي.
قال تروي لودتكا، اقتصادي أول مختص بالولايات المتحدة في شركة "إس إم بي سي نيكو سيكيوريتيز أميركا" (SMBC Nikko Securities America) للأوراق المالية: "أهمية ذلك أنه، عندما يحدث التباطؤ الحتمي في سرعة النشاط الاقتصادي، سنشهد تراجعاً في عدد قرارات خفض الفائدة، وقد ترتفع أسعار الفائدة على مدى الأعوام العشرة المقبلة أو نحوها مقارنة بما كانت عليه في الأعوام العشرة الماضية".
أسعار عالية للفائدة طويلة الأجل
توقفت العقود الآجلة لأسعار الفائدة لأجل خمس سنوات خلال الأعوام الخمسة المقبلة عند مستوى 3.6%، وهي عقود تعتبر مؤشراً على وجهة نظر السوق حول المستوى الذي ستبلغه أسعار الفائدة في الولايات المتحدة.
ينخفض هذا المستوى عن الذروة التي بلغها في العام الماضي عندما سجل معدل الفائدة 4.5%، غير أنه مازال أعلى بمقدار نقطة مئوية كاملة فوق متوسط العقد الماضي، وفوق المعدل الذي يتوقعه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي البالغ 2.75%.
أهمية ذلك ترجع إلى ما يعنيه من أن السوق تراهن على حد أدنى للعوائد أعلى بكثير مما يتوقع الاحتياطي الفيدرالي. ومعنى ذلك عملياً أن هناك حدوداً محتملة للمدى الذي يمكن أن ترتفع إليه أسعار السندات.
وينبغي أن يمثل ذلك مصدراً للقلق بالنسبة للمستثمرين الذين يتأهبون لذلك النوع من الصعود الملحمي للسندات الذي أنقذهم في أواخر العام الماضي.
في الوقت الراهن، تتزايد باستمرار حالة التفاؤل في أوساط المستثمرين، إذ انخفض مؤشر لـ"بلومبرغ" على عوائد سندات الخزانة بنسبة 0.3% فقط في عام 2024 حتى يوم الجمعة الماضي، وذلك بعد أن خسر ما يصل إلى 3.4% من قيمته عندما سجل أدنى مستوى له خلال العام.
تراجعت العوائد المعيارية بنحو نصف نقطة مئوية عن الذروة التي سجلتها في أبريل الماضي منذ بداية هذا العام.
ارتفاع مستوى سعر الفائدة المحايد
في جلسات التداول الأخيرة، قام المستثمرون بتكثيف مشترياتهم على رهانات معاكسة، التي ينتظر أن تستفيد من زيادة احتمالات خفض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة قريباً في شهر يوليو، كما ينتعش الطلب على العقود المستقبلية التي من شأنها أن تستفيد من أي صعود في سوق السندات.
لكن إذا كانت السوق على حق في أن سعر الفائدة المحايد قد حقق قفزة دائمة – وهو معدل لا يمكن مراقبته لحظياً بسبب اعتماده على الكثير من العوامل المؤثرة – فربما لا يكون سعر الفائدة المعياري الحالي لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي والذي يتجاوز 5% سعراً مرتفعاً أو انكماشياً كما نعتقد.
ويشير أحد مؤشرات "بلومبرغ" بالفعل إلى أن الأوضاع المالية يسيرة نسبياً.
قال بوب إليوت، الرئيس التنفيذي ورئيس شؤون الاستثمار في شركة "أنليمتيد فندز" (Unlimited Funds): "شهدنا فقط تباطؤاً تدريجياً إلى حد ما في النمو الاقتصادي، وهذا يشير إلى أن سعر الفائدة المحايد أعلى بشكل كبير".
وأضاف أن "النقود السائلة تبدو أكثر جاذبيةً من السندات" في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، ومحدودية علاوة المخاطرة المتضمنة في أسعار السندات طويلة الأجل.
أصبح المستوى الحقيقي لسعر الفائدة المحايد، الذي يعرف أيضاً بمصطلح "R-Star"، موضوعاً ساخناً للمناقشة.
ومن بين أسباب احتمال تحوله إلى اتجاه صعودي، بدلاً من الهبوط الذي استمر لعقود، توقعات العجز الكبير وطويل الأمد في الميزانية الحكومية، وزيادة الاستثمار لمكافحة تغير المناخ.
قد يتطلب ارتفاع السندات مرة أخرى تباطؤ التضخم والنمو بمعدلات أعلى لتحفيز خفض أسعار الفائدة بوتيرة أسرع وأشد عمقاً مما يتصوره الاحتياطي الفيدرالي حالياً. ومن شأن ارتفاع سعر الفائدة المحايد أن يضعف احتمال تحقق هذا السيناريو.
تباطؤ معدل التضخم الأساسي
يتوقع الاقتصاديون أن تُظهر بيانات الأسبوع المقبل تباطؤ المقياس المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي للتضخم الأساسي إلى معدل سنوي يبلغ 2.6% الشهر الماضي بدلاً من 2.8%.
ومع أن هذه القراءة هي الأقل منذ مارس 2021، ولكنها أعلى من هدف الاحتياطي الفيدرالي للتضخم الذي يبلغ 2%. وبلغ معدل البطالة 4% أو أقل على مدى أكثر من عامين، وهو أفضل أداء منذ ستينيات القرن الماضي.
قالت فيبي وايت، رئيسة استراتيجية التضخم في الولايات المتحدة في مصرف "جيه بي مورغان تشيس" إنه "بينما نرى عدداً من الأسر والشركات تعاني من ارتفاع معدلات التضخم، فمن الواضح أننا كنظام إجمالاً تعاملنا مع الأمر تعاملاً جيداً للغاية".
يشير أداء الأسواق المالية أيضاً إلى أن سياسة الاحتياطي الفيدرالي قد لا تكون تقشفية بما يكفي.
سجل مؤشر "إس آند بي 500" أرقاماً قياسية على أساس يومي تقريباً، حتى مع ارتفاع أسعار الفائدة قصيرة الأجل المعدلة حسب التضخم بما يقرب من 6 نقاط مئوية منذ عام 2022، وهي الفائدة التي أشار إليها رئيس "مجلس الاحتياطي الفيدرالي" جيروم باول كأحد العوامل التي تدخل في قياس تأثير سياسة البنك المركزي.
وقال جيروم شنايدر، رئيس إدارة المحافظ قصيرة الأجل والتمويل في شركة "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت" (Pacific Investment Management): "أنت أمام سوق قوية بشكل لا يصدق في مواجهة ارتفاع العوائد الحقيقية".
"خلال الفترة التي تفصل بين إصدارين فقط من المخطط البياني النقطي، رفع الاحتياطي الفيدرالي تقديره لسعر الفائدة المحايد الاسمي من مستوى 2.50% إلى 2.80%، مما يكشف كيف أن البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم مازالت تحاول السيطرة على حجم التوسع الاقتصادي ومعدل التضخم الذي نشهده في هذه الدورة. ولهذا السبب يبدو أن الرهان الحالي في السوق الذي يتوقع تقريباً خفض الاحتياطي الفيدرالي للفائدة مرتين هذا العام رهان مبالغ فيه". - فن رام، محلل أصول متنوعة
رأي خبراء "بلومبرغ":
باول يقلل من أهمية السعر المحايد
باستثناء عدد قليل من مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي مثل عضو مجلس محافظي البنك كريستوفر والر، ينتقل معظم صناع السياسة النقدية إلى معسكر أنصار ارتفاع أسعار الفائدة المحايدة. إلا أن تقديراتهم تفاوتت في نطاق واسع بين 2.4% إلى 3.75%، مما يؤكد على عدم الثقة والتشكك في وضع التوقعات.
بدا باول في مناقشاته مع الصحفيين في 12 يونيو، عقب اختتام اجتماع السياسة النقدية للبنك المركزي الذي استمر يومين، وكأنه يقلل من أهمية السعر المحايد في اتخاذ قرار الاحتياطي الفيدرالي، قائلاً "لا نستطيع أن نعرف حقاً" هل ارتفع سعر الفائدة المحايد أم لا.
بالنسبة للبعض في السوق، فإن الأمر ليس مجهولاً. إنها حقيقة جديدة أعلى. وهو عائق محتمل أمام صعود السوق.