أحدثت الاستنتاجات المتشائمة للخبير الاقتصادي ستيفن روتش حول مستقبل هونغ كونغ جدلاً حاداً، رغم أن غالبية ردود الفعل الغاضبة على مقال صحيفة "فاينانشال تايمز" الذي نشره رئيس "مورغان ستانلي آسيا" السابق قد أثارها عنوانه الاستفزازي: "يؤلمني أن أقول إن عصر هونغ كونغ انتهى".
هل الأمر كذلك؟ ينبغي أن يتجاوز أي تقييم آفاق الإقليم الخاص التابع للصين مؤشر هانغ سنغ بالبورصة، وهو مؤشر ثروة يرتبط عادة بالازدهار في مدينة شُيدت بغرض التجارة. يشير مقال روتش إلى أي مدى كان المؤشر مستقراً بصفة أساسية منذ تسليم المستعمرة البريطانية السابقة عام 1997 إلى بكين. خلال الخمسة أعوام الماضية، هبط المقياس 45%.
خطة إنعاش
في حين أن خطة إنعاش هونغ كونغ بعد عدة أعوام من الركود ربما تنجح أو تفشل أو تسفر عن نتائج متوسطة، فإن السؤال الحقيقي الذي يُطرح يدور حول ما إذا كانت السياسات الاقتصادية تتحرك في الاتجاه الصحيح وتطال عدداً كافياً من الأشخاص العاديين. وتقدم الميزانية السنوية لوزير المالية بول تشان المعلنة يوم الأربعاء بعض الأدلة.
خلال وباء كورونا، أنفقت هونغ كونغ أموالاً طائلة. بحسب أحدث أرقام الميزانية، مع حلول مارس المقبل، ستكون المدينة قد أنفقت 37% من الاحتياطيات المالية البالغة 1.17 تريليون دولار هونغ كونغ (150 مليار دولار) التي كانت تملكها قبل 5 أعوام. استُخدم جزء كبير من الإنفاق في كوبونات الاستهلاك والإعفاءات الضريبية والإعانات المقدمة للشركات للإبقاء على الموظفين. بلغ معدل البطالة -ارتفع إلى 8.5% خلال تفشي وباء سارس 2003- ذروته عند 7.2% خلال 2021. ومنذ ذلك الوقت تراجع إلى 2.9%. بمعنى آخر، خففت الإدارة من الظروف المالية الصعبة، رغم أن سعيها صعب المنال للوصول لصفر إصابة بالعدوى كان قمعياً ودون جدوى.
ولكن حالياً بعد أن خرج الاقتصاد من عزلته المفروضة ذاتياً وعاد للنمو مرة ثانية، يبدو أن السياسات الاقتصادية بدأت تتجه لتعزيز الثروة حتى تتمكن هونغ كونغ من العودة مرة أخرى إلى ممارسة دورها التاريخي في التنافس مع منافستها الإقليمية سنغافورة بوصفها مركزاً مالياً عالمياً.
الثروات والمواهب
تكثر الأمثلة على ذلك. يطلب برنامج المال مقابل الإقامة الذي سيُفتح أمام الأجانب مع حلول منتصف العام الحالي استثماراً لا يقل عن 30 مليون دولار هونغ كونغ (3.8 مليون دولار)، أي نصف مستوى برنامج مشابه في سنغافورة. مُنحت الشركات العائلية المملوكة لفائقي الثراء إعفاء ضريبياً لمجموعة واسعة من الأصول، ومرونة أكثر مقارنة بسنغافورة في توظيف المواهب واختيار استثماراتهم.
لا حرج في استمالة الأثرياء. رغم ذلك، من المهم أن نتذكر أن الأثرياء يفهمون طبيعة المنافسة العالمية على ثرواتهم. في الوقت الراهن، بعد أن حصلوا على صفقة جيدة لاستثمارات الشركات العائلية، فإنهم يضغطون من أجل الإعفاءات الضريبية على القطع الفنية والنبيذ والمقتنيات. لم يذكر تشان بالضبط الامتيازات الإضافية التي سيقدمها، لكنه وعد بزيادة أنواع المعاملات المؤهلة للإعفاءات. وبالتالي بدأ فائقو الثراء يحصلون على ما يريدون. لا يعاني أيضاً أصحاب الدخل المرتفع الآخرون بصورة سيئة تماماً. رفعت الزيادة البالغة نقطة واحدة مئوية العام الجاري ضريبة الدخل على الرواتب التي تتجاوز 5 ملايين دولار هونغ كونغ الحد الأقصى إلى 16% فقط. يتحمل الأثرياء في سنغافورة ضريبة 24%.
رغم ذلك، فإن جزءاً من النخبة السياسية في هونغ كونغ غاضبة من تحديد أجرة ثابتة عند دولارين هونغ كونغ لكبار السن لاستخدام وسائل النقل العام. يستمر تناول جميع أنواع الانتقادات للبرنامج بصورة متكررة حيث تدور تساؤلات، لماذا خفضت الإدارة السابقة سن الأهلية من 65 إلى 60 سنة؟ لماذا لا يستطيع كبار السن دفع 3 دولارات هونغ كونغ على الأقل؟ في خطاب الميزانية، أشار تشان إلى أنه سيراجع البرنامج لكنه لا يعتزم إلغاءه.
الرعاية الاجتماعية
لا يمثل نظام الرعاية الاجتماعية جزءاً أساسياً من الهوية الاقتصادية للمدينة. لكن التنافس مع سنغافورة لا يمكن أن ينحصر فقط بالثروة وعوائد السياحة الدولارية والمواهب. كما أن دعم الأسر العاملة يستحق المقارنة. خلال السنة الجارية، خصصت الدولة المدينة الواقعة جنوب شرق آسيا 7.5 مليار دولار سنغافوري (5.6 مليار دولار) لمساعدة "كبار السن في مرحلة ما قبل التقاعد" بصفة أساسية -سنغافوريون تتراوح أعمارهم بين 50 و64 سنة- على ادخار المزيد للتقاعد. يتجاوز هذا 10 أضعاف التكلفة السنوية للسفر المدعوم لفئة كبار السن في هونغ كونغ.
مع كون هونغ كونغ صاحبة أطول متوسط عمر متوقع في العالم فإنها تعاني من شيخوخة سكانها. إنه من الجيد أن يحافظ كبار السن على صحتهم من خلال السفر للخارج وعدم البقاء بمنازلهم الضيقة، وإلا سيصابون بالأمراض ويشغلون أسرة المستشفيات العامة. يمكن أن تؤدي الفجوة في فهم النخبة السياسية للسبب الذي تستحق خدمات الرعاية الاجتماعية من أجله الدعم وتجربة العائلات العاملة بفضل ما تحصل عليه من المدينة إلى تأخير انتعاش المدينة، أو تسفر عن خروجها عن المسار الصحيح.
بعد مرور 3 أعوام، جرى أخيراً وقف كوبونات الاستهلاك التي تتراوح من 5 إلى 10 آلاف دولار هونغ كونغ مقدمة للمقيمين خلال فترة تفشي الوباء، وهي محقة في ذلك القرار. يحتاج الاقتصاد إلى إشارة تدل على عودة الأعمال التجارية لوضعها الطبيعي. لنفس السبب، من المنطقي استبعاد الأفراد تدريجياً من الإعفاءات الضريبية الخاصة بوباء كوفيد-19 (جرى تخفيض الحد الأقصى لمبلغ الخصم من 10 آلاف دولار هونغ كونغ قبل عامين إلى 6 آلاف دولار هونغ كونغ السنة الماضية، وخُفض مرة أخرى إلى 3 آلاف دولار هونغ كونغ بالوقت الحالي). ماذا عن مساعدة طلاب الثانوية في رسوم الامتحان؟ بالنظر إلى اهتمام المدينة بالمواهب، كان من الممكن أن يدوم ذلك لبعض الوقت.
المشكلة الأكبر
من ناحية أخرى، لا تكمن المشكلة الأكبر في الذي تغير بالنسبة لأصحاب الأجور، ولكنها تتمثل في الأمور التي لم تحدث. تبقي الإعفاءات القياسية مقابل فاتورة الضرائب -الإعفاء الأساسي وامتياز الطفل- دون تغيير. جرى رفع هذا الأخير بصورة طفيفة السنة المنصرمة، لكن غالبية الإعفاءات بقيت دون تغيير على مدى أعوام حتى في ظل زيادة تكلفة المعيشة. من المنطقي اقتصادياً رفع بعضها. على سبيل المثال، يمكن أن تسفر الزيادة السخية للخصم الضريبي على أقساط التأمين الصحي الطوعية عن ارتفاع معدلات الاستفادة من خدماته وتخفيف الضغط على المستشفيات العامة. وبنفس الطريقة، يحتاج الآباء الجدد إلى إعانات مستهدفة. منحة الطفل المقدمة لمرة واحدة البالغة 20 ألف دولار هونغ كونغ السنة الماضية للأطفال المولودين خلال 3 أعوام تعد صغيرة للغاية ومدتها غير كافية تماماً بحيث لا يمكن تعزيز معدل المواليد الآخذ في التضاؤل.
تتمثل أبرز ملامح ميزانية العام الحالي في إلغاء تدابير كبح ارتفاع سوق العقارات، وهي رسوم إضافية على المشترين والبائعين مفروضة منذ 2010. لكن علاوة على مساعدة الحكومة عن طريق جمع الضرائب على مبيعات الأراضي لشركات التطوير العقاري، فمن غير المرجح أن تؤثر تخفيضات الرسوم بطريقة ملموسة. وربما لا تقي مالكي المنازل الحاليين من تراجع الأسعار الأكثر، لا سيما عندما تكون المنازل الجديدة غير المبيعة في أعلى مستوياتها منذ 20 سنة. كما ذكر زميلي شولي رين، فإن إلغاء الضريبة العقابية على المشترين الذين يعيدون بيع شققهم ربما يفاقم ضغوط البيع.
أسعار الفائدة
حتى ينجذب المشترون إلى السوق، ينبغي لأسعار الفائدة أن تبدأ بالانخفاض. لكن مع ارتباط سعر الصرف بالدولار الأميركي، فإن تكاليف الاقتراض لا تخضع لسيطرة هونغ كونغ. حتى مع تراجع الأسعار، ستبقى عقارات هونغ كونغ من بين الأغلى على مستوى العالم، وستستمر ببساطة بعيدة المنال بالنسبة للمواطن العادي.
عندما يرتبط الأمر بتحديد مستقبلها، فقد لا تتمتع هونغ كونغ بأي تأثير على العوامل الكبرى، على غرار سياسات الصين الاقتصادية أو علاقات البر الرئيسي الصيني مع الغرب. رغم ذلك، فإن ما تتحكم فيه هو مبلغ كبير من الفوائض المالية المتراكمة. يبنغي أن تجعل تلك الأموال تحقق المزيد من الفوائد لصالح شعبها.