لا ترهق نفسك بقراءة 247 صفحةً مكتظة، فعنوان القانون الجديد الذي أصدرته هيئة الأوراق المالية والبورصات (SEC) بشأن تداول سندات الخزانة الأميركية، التي تعد السوق الأهم في العالم، وحده سيكفي لتشعر بالضجر. فهو "توصيف آخر لعبارة (بصفته جزءاً من النشاط الاعتيادي) الوارد في تعريف التاجر والمُتاجر بالأوراق المالية الحكومية في ما يتصل ببعض مقدمي السيولة" (Further Definition of ‘As a Part of a Regular Business’ in the Definition of Dealer and Government Securities Dealer in Connection with Certain Liquidity Providers.)، لكن بصرف النظر عما تطلقه عليه الهيئة، فهو مثال تقليدي على الزحف التنظيمي.
تكليف بحماية المستثمرين
أولاً، لنقدم بعض السياق التاريخي؛ التشريع الذي أنشأ هيئة الأوراق المالية والبورصات في إطار الاتفاق الجديد، كلفها بمسؤولية حماية المستثمرين العاديين.
اضطلعت الهيئة بهذه المسؤولية من خلال منع أو عدم تشجيع صناديق الاستثمار التي تحصل على التمويل من الجمهور من تقاضي رسوم أداء، أو استخدام الديون، أو اتخاذ مراكز استثمارية مُركّزة، أو البيع على المكشوف، أو شراء أصول غير سائلة، أو التكتم على المراكز الاستثمارية أو استراتيجيات الاستثمار، أو أي تقنيات أخرى تعتبر عالية المخاطر.
اقرأ أيضاً: صعود السندات الأميركية وسط تصريحات متشددة من الاحتياطي الفيدرالي
رغم ذلك، أتاحت الهيئة لصناديق الاستثمار تقاضي رسوم مبيعات مرتفعة، ولم تضع حداً للرسوم، وسمحت أيضاً للوسطاء بالتآمر بغية الحفاظ على العمولات مرتفعة، ورد بعضها إلى مديري صناديق الاستثمار.
نتيجة لذلك، خسر المستثمرون في صناديق الاستثمار المشتركة العامة المال بعد احتساب الرسوم والتضخم والضرائب، حتى ابتكار الصناديق المرتبطة بالمؤشرات وصناديق أسواق النقد، رغم أن الهيئة عارضتهما في البداية.
كانت هناك نتيجة أخرى، أن صناديق التحوط بدأت بتقديم أرباح للمستثمرين الأثرياء تفوق ما تعرضه السوق، بمنأى عن قوانين الصناديق العامة. لذلك وسعت هيئة الأوراق المالية والبورصات نطاق قوانينها في القرن الحادي والعشرين لتشمل صناديق التحوط.
الزحف التنظيمي
هكذا تسير الأمور؛ جهة تنظيمية تصدر قوانين تفتقر للحكمة والمنطق، وأشخاص يعثرون على سبل لتجنب الضرر الناجم عن القانون، ثم تطبق الجهة التنظيمية القواعد المفتقرة إلى الحكمة على الابتكارات.
ونتج عن ذلك الزحف التنظيمي، ضمن نتائج أخرى، أننا شهدنا صعود نجم شركات التداول الخاصة - أو "بعض مقدمي السيولة" كما تشير إليها الهيئة - والشركات العائلية، وذلك لتجنب قانون صناديق التحوط، فتلك الكيانات لا تحصل على تمويل من أطراف خارجية، ولا تستثمر إلا أموالها فحسب.
لا يمكن لهيئة الأوراق المالية والبورصات تنظيم صناديق التداول الخاصة بموجب التكليف بحماية المستثمرين، لذا تعتمد على مهمتها الأخرى، وهي حماية الأسواق. فطالما نظمت أوضاع تجار الأوراق المالية، وفرضت عليهم الاحتفاظ بمبالغ كبيرة من رأس المال، والإفصاح عن المعلومات الوافية، والالتزام بأي قوانين صارمة. وأعاد القانون الجديد تصنيف بعض صناديق التداول الخاصة باعتبارها من التجار.
ترابط بين التاجر والمستثمر
التاجر هو من يشتري من عملاء بسعر الشراء الذي يحدده، ويبيع إلى عملاء بسعر بيع أعلى، ويجمع مخزون من مراكز البيع والشراء من خلال هذه العملية، ويجني الأرباح من الفرق بين سعري الشراء والبيع، لكنه يتوقع خسارة قدر ضئيل من المال في ما يخص مخزونه. في الجهة الأخرى، نجد المستثمر الخالص، الذي يدفع الفرق بين سعري الشراء والبيع، لكنه يتوقع تحقيق أرباح من الاحتفاظ بمراكزه الاستثمارية.
اقرأ أيضاً: الاحتياطي الفيدرالي يوجه لكمة لأسعار السندات والأسهم
من الناحية العملية، هناك ترابط بين التجار والمستثمرين، فالتجار سيديرون مخزونهم ويحمونه بعدة طرق، وربما يتحيزون في سعره لتوجيهه إلى مسار مرغوب، فيما سيستخدم المستثمرون استراتيجيات لخفض تكاليف المعاملات، بل وتحقيق أرباح من خلال شراء أوراق مالية تتعرض لضغوط بيعية، وبيع أوراق مالية في ظل الضغوط الشرائية.
تأثير يصعب توقعه
تبرر هيئة الأوراق المالية والبورصات القانون الجديد بأن بعض شركات التداول الخاصة وصناديق التحوط باتت أكثر نشاطاً ونجاحاً في تداولها إلى حد حوّلها بالفعل إلى تجار.
من الصعب توقع تأثير القانون. ربما سينتقل التداول النشط الذي تستهدفه الهيئة إلى كيانات مستثناة من القانون، مثل الصناديق المشتركة العامة، والشركات المالية الدولية، وشركات التداول عالي التردد (المعتمد على الحواسيب عالية الأداء والخوارزميات) الصغيرة. أو قد تحصر شركات التداول الخاصة وصناديق التحوط بعض أنشطة التداول على شركة وساطة تابعة مقيدة، من دون إخضاع كل عمليات التداول لقوانين التجار. وربما تعيد الصناديق هيكلة التداول تجنباً للقانون.
اقرأ أيضاً: استطلاع "جيه بي مورغان": السيولة مصدر قلق المستثمرين في 2024
رغم ذلك، فمن هذا المنطلق يتضح أن القانون سيجعل تقديم السيولة أعلى تكلفة، ما سيقلل حجمها في السوق. ومتطلبات رأس المال والإفصاح ستجعل بعض استراتيجيات التداول المعتمدة على تكاليف معاملات منخفضة أو سالبة غير مربحة، ما يعني تراجع كفاءة الأسعار في السوق. كما أن تطبيق القواعد سيكبد الشركات تكاليف باهظة، ما سيؤدي إلى انخفاض أرباح المستثمرين.
ميزات تعويضية
تشير اللجنة إلى 3 ميزات تعويضية، الأولى تتمثل في إتاحة تكافؤ الفرص بين التجار، وهي ميزة تفتقر إلى المنطق، فأرباح التجار ليست من حقوق الإنسان الأساسية التي يجب توزيعها بالتساوي، والتجار المقيدون يشتكون من أن المبتكرين وجدوا وسائل أقل تكلفة وأفضل لبيع السيولة، ويسعون إلى فرض التكاليف المرتفعة على المنافسين.
الميزة الثانية تركز بشكل أكبر على رؤية الهيئة للأسواق. وهذا غير منطقي، لكن ما يقلقني هو أن الجهات التنظيمية تسعى إلى الحصول على مزيد من المعلومات من دون تصريح واضح من الكونغرس، وتعتزم استخدامها.
أخشى أن الجهات التنظيمية تسعى دوماً إلى معرفة المزيد، لتتمكن من اتخاذ إجراءات جديدة. لكن من الجهة الأخرى، يمكن أن تستخدم هيئة الأوراق المالية والبورصات المعلومات الإضافية للقضاء على الاحتيال والتلاعب، ورفع كفاءة السوق وتعزيز استقرارها.
اقرأ أيضاً: سندات الخزانة الأميركية تسجل أول مكاسبها منذ 2020 مع تزايد رهانات خفض الفائدة
أما الميزة الثالثة والأخيرة، فتجادل الهيئة بأن إجبار تجار الظل على الاحتفاظ برأس مال أكبر سيؤدي إلى استقرار الأسواق، إذ سيمكنهم مواصلة تقديم السيولة بعد تكبد خسائر في الأسواق الفوضوية.
حقاً؟ أولاً، قد يتوقف كثير من تجار الظل عن تقديم السيولة في أي وقت. ثانياً، زيادة متطلبات رأس المال سيجبر التجار على وقف التداول بعد الخسارة. وثالثاً، التجار لا يتكبدون خسائر أبداً عن قصد في سبيل مصلحة السوق، بل يميلون إلى إغلاق الشركات الخاسرة حتى لو كان لديها رأس مال كافٍ لمواصلة نشاطها.
جهود مستمرة
على مستوى أعلى، يمثل هذا القانون خطوة أخرى ضمن الجهود المزمنة التي تبذلها الجهات التنظيمية لبسط سيطرتها على الكيانات المؤسَسة لغرض تقليل الضرر الناتج عن قوانين سابقة، والكونغرس لم يكلف هيئة الأوراق المالية والبورصات بمهمة حماية التجار الذين تجمعهم صناديق استثمار خاصة، والهيئة تستخدم سلطتها على التجار بهدف التسلل عبر الأبواب الخلفية إلى تلك الكيانات، والتي ستؤسس كيانات جديدة أو معدلة لكي تخفض تكلفة التنظيم.
يجب مقاومة هذا الزحف التنظيمي، ليس لأنه القانون الأسوأ في التاريخ، بل لكونه جزء من عملية تضر بالابتكار، والكفاءة، والحرية.