تهدد النماذج اللغوية الكبيرة، مثل "تشات جي بي تي"، بإحداث تغيير جذري في معظم مجالات الحياة والعمل، وتداول الأوراق المالية ليس استثناء من ذلك. فقدرة هذه النماذج اللغوية على فهم الأسواق، فضلاً عن مجرد التعرف على الأنماط، تميزها عن الإصدارات السابقة من التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي التي فشلت في تحقيق نجاح ملحوظ في مجال التداول.
المشكلة الأساسية هي أن أسعار الأوراق المالية مليئة بالشوائب والضوضاء، وهي قريبة جداً في حركتها من العشوائية. ويتآمر كثير من الأشخاص الأذكياء والخوارزميات للقضاء على أي إشارة يمكن استخدامها لتحقيق الربح. إن الأمر شبيه بمحاولة فهم نص كتب عمداً ليكون مضللاً. ولا ينجح الذكاء الاصطناعي التقليدي إلا عندما تكون الإشارات أقوى وأوضح مقارنة بالضوضاء.
قبل أن نغوص في مناقشة ما يميز النماذج اللغوية الكبيرة الحديثة (LLM)، ينبغي لي أن أوضح لماذا يجب أن تهتم بالأمر، حتى لو لم تكن مهتماً بتداول الأوراق المالية باستخدام برامج الكمبيوتر. فالتداول هو أساس عملية التمويل، وحتى التغييرات الصغيرة في آلياته تكون لها آثار عميقة على السوق، وتترجم إلى آثار اقتصادية عميقة.
التداول عالي التردد واقتصاد المشتقات
تأثير استراتيجيات التداول عالي التردد (HFT)، التي تعتمد على السرعة الفائقة واستخدام برامج الكمبيوتر والبيانات ودخلت السوق في أواخر تسعينيات القرن العشرين، لم يقتصر على ربط المشترين النهائيين والبائعين النهائيين بسرعة وكفاءة أكبر، بل أدى استخدامها أيضاً إلى زيادة كبيرة في أحجام التداول، وخفض تكاليف المعاملات، وخروج البشر من نشاط تداول الأسهم -وهو التحول الذي قام بدراسته مايكل لويس في كتابه "فلاش بويز" (Flash Boys). وقد ساعد ذلك على ظهور شركات وساطة لا تتقاضى أي عمولة وصناديق استثمار بدون رسوم - مما أدى إلى القضاء على الإيرادات التي اعتمدت عليها شركات الوساطة وإدارة الأصول منذ إنشائها. وتطلب استخدام هذه الاستراتيجيات إعادة هيكلة جذرية للتنظيم والرقابة المالية. غير أن استراتيجيات "التداول عالي التردد" لم تتسبب فقط في إعادة هيكلة اثنين من الأنشطة المالية الرئيسية، ووضع تحديات أمام الجهات التنظيمية وخفض التكاليف على المستثمر النهائي، بل إنها جلبت ظواهر جديدة مثل الانهيارات والأزمات المفاجئة.
اقرأ أيضا: صندوق النقد: الذكاء الاصطناعي سيؤثر على 40% من الوظائف
في نصف القرن الماضي، كان للابتكارات الأخرى في مجال التداول تأثيرات واسعة مماثلة. فقد أدت إضافة العقود الآجلة والخيارات المتداولة إلى الأدوات المالية المطروحة للتداول العام في 1973 إلى ظهور اقتصاد المشتقات العالمية الحديث، والذي وسع بشكل كبير من نشاط الرفع المالي والاستدانة خارج النظام المصرفي وجعل عملية المراقبة والتحكم صعبة على الجهات التنظيمية.
في ثمانينيات القرن الماضي، وجه الاتهام إلى برامج التداول بأنها تسببت في أكبر انهيار لسوق الأوراق المالية في التاريخ في عام 1987، وقد لعبت دوراً في تفاقم كل فقاعة وأزمة منذ ذلك الحين. وغيرت الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري نشاط الخدمات المصرفية و"وول ستريت" وطريقة شراء المنازل. وفي القرن الحادي والعشرين، تعرضنا لتأثيرات هائلة من عقود التأمين ضد التعثر في سداد القروض، والتزامات الديون المضمونة، وصناديق المؤشرات المتداولة في البورصة.
"الانتباه هو كل ما تحتاجه"
النماذج اللغوية الكبيرة ليست جديدة تماماً، فهي تجمع بين العناصر المستخدمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة الأخرى مثل الانحدار الذاتي والشبكات العصبية. وتشبه هذه العناصر ما يحاول البشر القيام به، وهي متضمنة في العديد من خوارزميات التداول الكمي الحالية.
إن الاختراق الرئيسي الذي قد يؤدي إلى نجاح هذه النماذج فيما فشلت فيه الجهود السابقة وصفته ورقة بحثية هامة وضعها باحثون في شركة "غوغل" عام 2017، بعنوان "الانتباه هو كل ما تحتاجه". (تناولت زميلتي في "بلومبرغ أوبينيون"، بارمي أولسون، هذا الفريق وأسباب فشل الشركة الأم "ألفابت" في البداية في الاستفادة من أبحاثهم).
كتب العالم وكاتب الخيال العلمي إسحاق أسيموف: "إن العبارة الأكثر إثارة التي يمكن سماعها في العلم، تلك التي تبشر باكتشافات جديدة، ليست عبارة (وجدتها) وإنما عبارة (هذا مضحك ...)". فالفكرة العميقة والمتبصرة لا تنبع من تأكيد أو استبعاد الفرضيات، وإنما من ملاحظة الأشياء التي تجاهلتها في الماضي.
يستمر العلم التقليدي مع قيام المتخصصين بطرح أسئلة والإجابة عليها، من تلك الأسئلة المعروفة بأنها مثيرة للاهتمام في ضوء حالة المعرفة المسبقة. لكن تخيل لو بدلنا ذلك بدفتر "يوميات هذا مضحك"، تدون فيه ملاحظات محيرة من جميع المجالات دون تنقية أو استبعاد تلك التي تبدو تافهة. قد يلاحظ الناس اثنين أو ثلاثة من هذه الألغاز، ويربطونها مع شيء تعلموه بأنفسهم، ويخرجون باكتشافات شديدة الأهمية في مختلف التخصصات.
ربما يمثل ذلك مضيعة هائلة للوقت بالنسبة للأكاديميين الذين يضطرون إلى أن ينشروا شيئاً أو يتلاشى ذكرهم. غير أن أجهزة الكمبيوتر ليس لديها سوى الوقت لربط ملايين الوقائع "المضحكة"، التي تفتقد إلى أدنى أهمية بالنسبة للبشر إذا أخذت كل واحدة منفصلة عن الأخرى. فقد أشارت ورقة "غوغل" البحثية إلى أن الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يبذل جهداً أقل لمعرفة أي الحقائق التافهة يكتسب قدراً من الأهمية، وأن ينفق مزيداً من الوقت لربطها جميعاً. هذا الموقف مألوف لمحبي الروايات البوليسية حيث يفكر البطل في التناقضات الصغيرة والتفاصيل غير المهمة التي تكشف عن القاتل عند تجميعها في سياق مترابط -فيما يصر مساعده أو المحترفون الذين يفتقدون إلى الخيال على التركيز فقط على الحقائق المعروف أنها مهمة.
إقناع كبار المستثمرين
استخدمت شركات التداول الكمي "النماذج اللغوية الكبيرة" لفترة من الوقت. فالخوارزميات الأساسية متاحة على نطاق واسع، ومن السهل العثور على مطوري هذه النماذج. الجزء المكلف هو بناء وتنقية مجموعات البيانات الكبيرة وتمثيل البيانات بطريقة تلائم النماذج. علاوة على ذلك، فإن تداول المحافظ ذات الرافعة المالية الكبيرة والعابرة للأسواق مع آلاف المراكز الاستثمارية يتطلب بنية تحتية وعلاقات تتوافر في الغالب في استراتيجيات الأربيتراج التي تعتمد على التحليل الإحصائي، والتداول الكمي للأسهم، ومكاتب التداول المنهجي العالمية التي تعتمد على مؤشرات الاقتصاد الكلي.
إقناع كبار المستثمرين بأن يثقوا في أنظمة الكمبيوتر المعقدة يمثل عقبة أخرى. وأظن أن هذا يعني أن شركات التداول الكمي الكبيرة القائمة هي أول من سيدفع هذه العملية لا مكاتب الذكاء الاصطناعي الناشئة –شركات مثل "سيتادل" (Citadel) و"رنيسانس تكنولوجيز" (Renaissance Technologies) و"جين ستريت غروب" (Jane Street Group)، ولن تقوم بذلك فتاتان تعملان في مرآب في وادي السيليكون.
إذا أدى هذا النهج إلى تحقيق أرباح من التداول وتم اعتماده على نطاق أوسع ، فأنا أرجح أن يغير السلوك المالي في مختلف الأسواق لا مجرد الأسعار النسبية بين فئات الأصول. لدينا بالفعل أدوات جيدة تتعلق بكيفية تقييم سهم مقابل آخر، أو سند مقابل سند آخر، أو وحدة عقارية مقابل أخرى. غير أننا نفتقد إلى نظرية مفيدة أو تعميمات كمية موثوقة تتعلق بكيفية تسعير الأسهم والسندات والعقارات وفئات الأصول الأخرى في علاقتها مع بعضها بعضاً.
إعادة هيكلة قطاع التمويل
منطقي أن ما سيحدث في المستقبل القريب هو أن تبني نماذج التداول المطعمة بالنماذج اللغوية الكبيرة (LLM) محافظ استثمار ضخمة من مختلف فئات الأصول بطريقة مماثلة لما تفعله صناديق التحوط العالمية التي تعتمد على مؤشرات الاقتصاد الكلي، ولكن مع زيادة في الرافعة المالية، وتعدد المراكز الاستثمارية، وتداول أكثر نشاطاً، وبدون عنصر بشري يشرح الفكرة. وقد تضاف إليها وحدة للشرح والتوضيح من شأنها أن تقدم أفكاراً تبدو معقولة، ولكن دون وجود سبب للاعتقاد بأن هذه التفسيرات سيكون لها أي علاقة بالمراكز الاستثمارية التي تتخذ.
نستطيع أن نأمل في أن تعكس علاقات الأسعار والارتباطات الجديدة الواقع الاقتصادي بصورة أفضل، بما يؤدي إلى تخصيص رأس المال بدرجة أعلى من الكفاءة، واتخاذ قرارات أفضل تتعلق بالاقتصاد الحقيقي. وهذا أحد عناصر الثقة عند كثير من الناس، لكنه ليس عنصراً تدعمه أدلة تجريبية كثيرة بطريقة أو بأخرى.
وسواء صح ذلك أم لا، فإن إعادة هيكلة العلاقات المالية عبر الأسواق سوف تقوض العديد من نماذج الأعمال والأنظمة الرقابية. وأتوقع قدراً من الاضطراب لا يقل عما تسببت فيه استراتيجيات "التداول عالي التردد"، وربما يعادل ما تسبب فيه التداول العام للعقود الآجلة وعقود الخيارات. وإذا كنت مخطئاً، وإذا فشلت "النماذج اللغوية الكبيرة" (LLM) في اكتساب الكثير من الاهتمام في عملية التداول، فهناك كثير من الأفكار الجديدة في جعبة الذكاء الاصطناعي لتحل محلها.