بينما اقتربت الليرة من إكمال عقد من الخسائر المستمرة، ناقش صناع السياسات في تركيا فكرة كانت تبشر بحل سريع، وساعدت على التصدي لأزمات أخرى مشابهة.
لكن بعد سنتين تقريباً، أصبح برنامج الودائع الممول من الحكومة، الذي يحمي الودائع بالليرة التركية من انخفاض قيمتها مقابل العملات الصعبة، أكبر من إنهائه تدريجياً، وأخطر من التخلي عنه.
البرنامج الذي اعتبر في البداية إجراءً طارئاً، أصبح أداة مكلفة لكن لا يمكن الاستغناء عنها، إذ كشف البنك المركزي عن واحدة من أكبر الخطوات حتى الآن التي تهدف إلى تقليص حجم الودائع المرتبطة بالعملات الأجنبية، في قرار أُعلن عنه في الساعات الأولى من يوم الأحد، وهو ما أدى إلى تدهور أسهم البنوك التركية في بورصة إسطنبول الإثنين.
عبء على البنك المركزي
بقيمة 124 مليار دولار، تمثل الودائع المرتبطة بالعملات الأجنبية حالياً أكثر من ربع إجمالي الودائع، ما قلص الاحتياطيات الإجمالية لدى البنك المركزي. يستنزف البرنامج، المعروف باختصاره باللغة التركية "كيه كيه إم" (KKM)، خزانة الدولة بشكل متزايد، ويعيق صناع السياسات من رسم مسار أكثر تقليدية لتقدم الاقتصاد البالغ حجمه 900 مليار دولار بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو.
توقعات التضخم في تركيا تسجل أسوأ مستوى منذ 21 عاماً
بموجب هذه الآلية، يمكن حماية الودائع بالليرة من خسائر العملة عبر الحصول على تعويض تضمنه الدولة عن أي انخفاض في قيمة الليرة يتجاوز سعر الفائدة على الحسابات المصرفية. وبما أن التدفقات يمكن أن تأتي عبر تحويل حسابات العملة الصعبة، فذلك أصبح مصدراً إضافياً للدولارات بالاحتياطيات المتناقصة لدى البنك المركزي.
بينما يتهيأ البنك المركزي بقيادة محافظته حفيظة غاية أركان، لرفع أسعار الفائدة مرة أخرى هذا الأسبوع، وهو قرار كاد يكون محرماً في حقبة المحافظ السابق، قد يتحول برنامج "كيه كيه إم" إلى إرث مستمر لعصر السياسات الاقتصادية غير التقليدية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
كتب محللو "سيتي غروب"، ومنهم لويس كوستا، في تقرير صدر الأسبوع الماضي: "لا نتوقع أن يكون البنك المركزي قادراً على عكس اتجاه تسهيلات برنامج الودائع هذا في المدى المتوسط، نظراً لضعف غطاء احتياطي العملات الأجنبية، وحجم الديون بالعملات الأجنبية في الاقتصاد التركي التي يُفترض سدادها".
تركيا تطلب مساعدة البنوك المحلية لإعادة توازن الاقتصاد
رغم التغير الكبير الذي قام به المودعون الأتراك، إذ لم يشهد البرنامج تدفقات أسبوعية خارجة منذ يناير، تُعتبر "إس أند بي غلوبال ريتنغز" (S&P Global Ratings) الاقتصاد التركي "أكثر دولرة" عما كان عليه في 2019، بعد أزمة العملة.
يشير البنك المركزي من خلال قراره الأحدث، إلى أن البنوك مطالبة بإثناء العملاء عن تجديد ودائعهم بالبرنامج، ما يجبر البنوك التي لا تحقق مستهدفات معينة للتحويلات إلى الحسابات العادية بالليرة، على شراء سندات حكومية إضافية.
"تشير الخطوة الأحدث للبنك المركزي التركي إلى بداية نهاية الودائع المحمية من تقلبات أسعار صرف العملات الأجنبية. لكن من دون رفع أسعار الفائدة الأساسية بشكل حازم لتثبيت توقعات التضخم ودعم الليرة، فتغيير تفضيلات العملة لدى المودعين سيكون مهمة شاقة. نتوقع أن يواصل البنك المركزي إجراء تعديلات تشديدية في أدواته البديلة، على أن تصاحبها زيادة أسعار الفائدة بشكل تدريجي فقط"، حسب المحللة الاقتصادية سيلفا باهار بازيكي.
رأي "بلومبرغ إيكونوميكس"
من المتوقع حالياً ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع بالليرة، والتي شهدت انخفاضاً قبل قرار نهاية الأسبوع، وفقاً لمسؤول مطلع على الخطط طلب عدم الكشف عن هويته نظراً لخطورة المسألة.
تقليص ودائع "كيه كيه إم"
قال هالوك بورومسكيجي، المحلل الاقتصادي المستقر في إسطنبول: "يبدو أن الهدف الرئيسي للوائح هو خفض حصة الحسابات المستفيدة من البرنامج. الإجراءات الجديدة سيكون لها تأثير جوهري على أسعار الفائدة للودائع، ما يشير إلى أن رفع البنك المركزي لسعر الفائدة الأساسي سيواصل مخالفة توقعات الأسواق".
"نومورا": تركيا والتشيك معرضتان لأزمة عملة خلال 12 شهراً
تظل الأداة شبكة أمان جوهرية للعملة، في وقت ما تزال فيه أسعار الفائدة التركية الحقيقية، أي عند تعديلها حسب التضخم، سالبة. كما يواصل المودعون الأتراك الإقبال على برنامج "كيه كيه إم" في ظل غياب خيارات جذابة أخرى بخلاف الذهب والأسهم.
الخيارات أمام تركيا محدودة، فأي إيقاف مفاجئ للبرنامج على الأرجح سيدفع الناس للتهافت على الدولارات، ما سيهدد الاحتياطيات الرسمية المستنفدة بشكل أكبر من اللازم، لتلبية موجة الطلب على العملة الصعبة.
لكن الآثار الجانبية الاقتصادية مدمرة بما يكفي لدرجة فرضت على البنك المركزي اتخاذ رد فعل. إذ اضطرت البنوك الحكومية لبيع مليارات الدولارات في السوق للمساعدة على تلبية الطلب على العملة الصعبة الناتج عن حلول أجل استحقاق الحسابات المشاركة في البرنامج.
قفزة قياسية في أسهم البنوك التركية بعد رفع تصنيف "موديز"
فاقمت المبالغ المخصصة لتعويض أصحاب الودائع بالبرنامج في الوقت الحالي تخمة السيولة في النظام المالي، لدرجة أن البنك المركزي تعيّن عليه استنزافها برفع المبلغ الذي يجب على البنوك تخصيصه لتغطية الودائع المحمية من تقلبات أسعار صرف العملات الأجنبية.
سيولة الليرة
كتب كليمنز غراف وباشاك إديزغيل، المحللان الاقتصاديان لدى "غولدمان ساكس"، في تقرير: "رغم تراجع التمويل المصرفي من البنك المركزي التركي منذ الانتخابات، تواصل سيولة الليرة الموجودة في النظام الزيادة، مدفوعةً لا سيما في الآونة الأخيرة، بارتفاع الودائع بالليرة التركية الناتجة من مدفوعات الودائع المحمية من تقلبات أسعار صرف العملات الأجنبية".
لم تعلن وزارة الخزانة التركية حتى الآن عن تكاليف البرنامج في البنك المركزي، الذي لم يعلن بعد عن حجم إسهامه. يُذكر أن الوزارة سددت 93 مليار ليرة (3.4 مليار دولار) في العام الماضي.
أضاف المحلل الاقتصادي بورومسكيجي أن الآلية تكبد البنك المركزي خسائر هائلة.
"دويتشه" و"HSBC" يتوقعان هبوطاً قياسياً لليرة التركية بسبب التضخم
بعد انتخابات مايو التي فاز بها أردوغان وحلفاؤه، قدّم الحزب الحاكم في تركيا مشروع قانون ينقل تكاليف البرنامج بالكامل إلى البنك المركزي. أشار المسؤولون إلى أن هذا النقل سيزيد شفافية الموازنة ويعزز الماليات العامة.
رغم أن برنامج "كيه كيه إم" ألقى بظله على صنع السياسات، يستاء المسؤولون من مناقشة مستقبله.
فعند سؤال محافظة البنك المركزي في الشهر الماضي عن الخطوة التالية، لم تقل إلا إن التركيز حالياً ينصب على تنويع أدوات حماية الليرة.
يُعد جودت يلماز، نائب الرئيس التركي، عضواً أساسياً في فريق جديد عيّنه أردوغان لتوجيه الاقتصاد. وقال إن الحكومة قد تعيد النظر في المسألة فور زيادة الاحتياطيات وتراجع المخاوف من أسعار الصرف.
كشف تقرير لـ"بلومبرغ" أن وزير المالية محمد شيمشك انتقد بشدة البرنامج خلال اجتماع سري مع مستثمرين أجانب، ما دفع الوزارة إلى إنكار هذا التصريح.
نقطة الضغط التالية ستظهر على الأرجح فور عودة البرلمان للانعقاد في الخريف المقبل، واحتمال إقرار قانون سينقل عبء برنامج "كيه كيه إم" بالكامل إلى البنك المركزي.
وأشار كوشكن كانغوز، مدير "مركز بحوث المالية العامة والسياسة النقدية" بمجموعة "تيباف" (TEPAV) البحثية، ومقرها في أنقرة، إلى أن السلطة النقدية، وعلى النقيض من وزارة الخزانة، لا تحصل على إيرادات، ما يعني أن عليها سداد المستحقات بطباعة نقد جديد. هذا سيؤدي إلى تسييل التكاليف الناتجة عن أسعار الصرف.
وأضاف أن النتيجة في أغلب الاحتمالات ستكون ممارسة ضغوط تصاعدية على التضخم، ما قد يعرض الليرة للخطر إذا دفع تيسير الأوضاع النقدية إلى التخلي عن الودائع المحمية من تقلبات أسعار الصرف العملات الأجنبية. مضيفاً: "لن أتفاجأ بأن يطول التخارج من البرنامج لفترة أطول من المتوقع في ظل هذه الأوضاع".