السوق الأكثر أهمية في العالم معطلة، فبدلاً من استخدام المقاييس الاقتصادية النموذجية، فإن سندات الخزانة الأميركية تتصرف مثل أطفال مذعورة من صوت غريب زعموا أنهم سمعوه في الليل.
يتأرجح العائد على السندات القياسية لمدة عامين بشكل هائل، إذ تراوح متوسّط مدى الفرق بين الأعلى والأدنى خلال كل يوم من الأسبوع الماضي بنحو نصف نقطة مئوية. عادةً ما يُنظر إلى الحركة بمقدار نقطتي أساس على أنه تحرك كبير بالنسبة إلى السندات.
ارتفع التقلب الضمني، الذي قِيسَ بمؤشر "آي سي إي بنك أوف أميركا موف"، إلى أعلى مستوى له منذ أواخر عام 2008 إبان ذروة الأزمة المالية العالمية. أفادت "بلومبرغ نيوز" يوم الجمعة بأن المتداول المخضرم آدم ليفنسون أغلق صندوق التحوط الخاص به، ما يجعله أول ضحية بارزة للتحركات الحادة في أسواق الدخل الثابت.
استيعاب الصدمات
بالتأكيد كان هناك كثير يتعين على مستثمري السندات والمتداولين استيعابه، لا سيما التهافت على سحب الأموال من بعض البنوك الأميركية متوسطة الحجم، ما أدى إلى استحواذ حكومي وإطلاق خطة إنقاذ، بالإضافة إلى أزمة في بنك "كريدي سويس" السويسري التي انتهت باندماج قسري مع منافسه "يو بي إس" خلال عطلة نهاية الأسبوع.
ولا تزال هناك قضية التضخم المرتفع بعناد، وما إذا كان "الاحتياطي الفيدرالي" سيتجاهل الاحتمالات المتزايدة للركود ويصبّ الزيت على حريق البنوك عبر زيادة أخرى في أسعار الفائدة هذا الأسبوع أم لا.
من الصعب عدم استنتاج أن التقلبات في سوق السندات ساهمت بشكل كبير في حالة عدم الارتياح التي تتغلغل في جميع الأسواق المالية. ففي النهاية، سوق سندات الخزانة هي السوق التي يأخذ منها الجميع في الأسواق المالية إشاراتهم، الأسهم، والائتمان، والعملات، وما إلى ذلك. قد يبدو أمراً غريباً -نظراً إلى الدور المركزي الذي تلعبه سندات الخزانة في النظام المالي العالمي- أن السبب وراء التقلبات الهائلة في سوق السندات هو نقص السيولة، ما يفاقم التحركات في الأسعار والعوائد.
التأثير المعاكس
أفادت "بلومبرغ نيوز" بأن التباين بين الأسعار المعروضة وما سيقبله البائعون قد اتسع لجميع آجال الاستحقاق في سوق سندات الخزانة النقدية البالغة قيمتها 24 تريليون دولار، ما يُعَدّ علامة على ضعف عمق السوق. وكتب جاي باري وجيسون هانتر، الاستراتيجيان في "جيه بي مورغان"، في مذكرة بحثية يوم الثلاثاء: "السيولة معرّضة للخطر بشكل كبير".
هذا التصريح غير كافٍ لعكس الواقع، إذ يُظهِر مؤشر "بلومبرغ" أن سيولة التداول لسندات الخزانة قد ازدادت سوءاً بخمس مرات منذ عام 2021، وباستثناء الارتفاع القصير في الأيام الأولى للوباء، فإنها أسوأ من أي وقت مضى منذ الأزمة المالية.
يمكن لـ"الاحتياطي الفيدرالي" الإسهام في الحل، فيما يتركز الجدل حول السياسة النقدية على ما إذا كان يتعين على "الاحتياطي الفيدرالي" رفع أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية أخرى أو عدم فعل أي شيء. عندما يعلن صانعو السياسة عن قرارهم يوم الأربعاء، فقد يكون من الأفضل إذا اختاروا إبطاء برنامج التشديد الكمي أو حتى وقفه مؤقتاً. في حين أن التيسير الكمي يضخ السيولة في النظام المالي من خلال شراء السندات، فإن التشديد الكمي سيكون له التأثير المعاكس.
تعديل التشديد الكمي
بدلاً من بيع السندات بشكل مباشر، سمح "الاحتياطي الفيدرالي" لـ9 تريليونات دولار من سندات الخزانة، وسندات الرهن العقاري التي تراكمت منذ الأزمة المالية لعام 2008، بأن تصبح مستحقة دون الاستبدال بها.
زاد مبلغ التشديد الكمي الذي أجراه "الاحتياطي الفيدرالي" إلى حد أقصى بلغ 95 مليار دولار شهرياً في سبتمبر من 47.4 مليار دولار. أدى ذلك إلى تقليص تدريجي في حيازات "الاحتياطي الفيدرالي" بنحو 650 مليار دولار، لتصل إلى 8.34 تريليون دولار في بداية هذا الشهر.
هل يتعارض إبطاء التشديد الكمي أو وقفه مؤقتاً مع جهود "الاحتياطي الفيدرالي" لاحتواء التضخم؟ من غير المحتمل أن يحدث ذلك. تماماً كما لا يوجد دليل قوي على أن سنوات عديدة من التيسير الكمي كان لها التأثير المرغوب في إثارة التضخم، فمن غير المرجح أن يساعد التشديد الكمي على تخفيف التضخم، إذ إنّ ما يفعله على الأرجح هو المساهمة في التقلب المفرط في سوق السندات الحكومية، وهي السوق التي تحدد تكلفة الأموال للحكومات، والشركات، والمستهلكين.
أيضاً سيكون إجراء تعديلات بسيطة بواسطة التشديد الكمي أفضل من عدم رفع أسعار الفائدة. يمكن اعتبار الأمر الأخير -كما كتب زميلي في "رأي بلومبرغ" جوناثان ليفين- علامة على ذعر "البنك المركزي"، ما قد يزيد المشكلات التي يتردد صداها في النظام المالي.
بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن يؤدي التوقف المفاجئ في رفع أسعار الفائدة إلى إحياء الفكرة القائلة إنّ لدى "الاحتياطي الفيدرالي" بالفعل "خياراً" مصمماً لإنقاذ "وول ستريت" عند ظهور أول علامة على التوتر.
آثار انهيار التقلب على المتداولين
منذ سنوات كانت السيولة في تناقص، ويرجع ذلك أساساً إلى برنامج التيسير الكمي التابع لـ"الاحتياطي الفيدرالي"، الذي أخرج كمية هائلة من السندات من النظام المالي، ما أدى إلى زيادة أصول الميزانية العمومية لـ"الاحتياطي الفيدرالي" من أقل من تريليون دولار في عام 2007 إلى 9 تريليونات دولار في عام 2022.
نتيجة لذلك انهار التقلب، إذ لم يتغير حجم سندات الخزانة المتداولة بين المتعاملين الأساسيين إلا قليلاً منذ عام 2009 على الرغم من زيادة حجم الديون القائمة القابلة للتداول من نحو 4.5 تريليون دولار إلى 24 تريليون دولار.
تُعتبر التقلبات شريان حياة المتداولين، لذا فإنّ ما حدث على طول الطريق هو أن تجار السندات المتمرسين الذين عرفوا كيف يتنقلون في الأسواق المضطربة تركوا العمل في ظل انحدار رواتبهم. ولم تعُد المكاتب المشهورة لتداول السندات التي كانت تجذب أفضل وأذكى موظفي "وول ستريت" -كما وصفها توم وولف في رواية "شعلة الغرور"، ومايكل لويس في كتاب "لعبة بوكر الكاذب"- جذابة بعد الآن. ما تبقى لديك هو الوافدون الجدد نسبياً الذين يعرفون فقط سوقاً تتميز بالهدوء النسبي ويسيطر عليها "الاحتياطي الفيدرالي"، وأسعار الفائدة الصفرية، والتيسير الكمي.
نعم، لدى "الاحتياطي الفيدرالي" الآن كثير من الأمور المهمة التي يجب أن يتعامل معها، لكن أزمة السيولة في سوق السندات هي قضية حرجة لا يمكن تأجيلها أو -ما هو حتى أسوأ- تجاهلها. تأكد أنه إذا تعطلت سوق سندات الخزانة فسيواجه الاقتصاد العالمي والنظام المالي مشكلات أكبر بكثير من مشكلات التهافت على السحب من بعض البنوك.