ربما كان النفط أكبر ضحايا انتشار الدراما المصرفية من كاليفورنيا إلى سويسرا في الأيام الماضية، بعد أن خسر خام برنت، خلال ما يتجاوز أسبوعاً بقليل، 10 دولارات للبرميل، أو 15% تقريباً من قيمته. وجعلت سرعة الهبوط وحجمه بعض المستثمرين يتساءلون: أين "أوبك+"؟
تبنّى تحالف النفط الكبير، على الأقل في الوقت الراهن، موقف الانتظار والترقب، وعلى الأرجح لن يتحرك حتى ينهي الاحتياطي الفيدرالي الأميركي اجتماع قرار السياسة النقدية المقبل في 22 مارس الجاري.
في غضون الساعات القليلة الماضية، كانت الرسالة التي سمعتُها من عواصم الدول المنتجة للنفط أنها "غير مذعورة". ربما تتصنع المجموعة الشجاعة، وتكسب وقتاً قبل أن تضطر إلى اتخاذ إجراءات. ربما. ورغم هبوط أسعار خامي برنت وغرب تكساس الوسيط بصورة مفاجئة، ما زال ما يصفه ممثلو "أوبك+" بالطلب الآسيوي القوي عاملاً مشجعاً، إذ يتحسن الطلب في الصين، وتشتري الهند كميات كبيرة.
المشتقات أم السوق المباشرة.. أيهما مسؤول عن تراجع الأسعار؟
يلقي مندوبو "أوبك+" باللائمة الأكبر في الهبوط على أموال المضاربة التي غادرت سوق عقود مشتقات النفط، وليس نتيجة لأي مؤشر على حدوث تدهور في السوق المباشرة. ويلاحظون، مثلاً، أن أسعار البيع الرسمية من المملكة العربية السعودية وبلدان الشرق الأوسط الأخرى كانت أقوى منذ يناير الماضي عند المقارنة على أساس شهري. لم يتنام إلى مسامعي أي شيء يشير إلى خفض وشيك في الإنتاج.
أي تحليل جاء عقب الانهيار الأخير يشير إلى أن السبب وراءه هو موجة بيع تتحقق ذاتياً، وتتركز في العقود الآجلة وعقود الخيارات، لا في السوق المباشرة. في البداية، زاد المستثمرون الكبار رهاناتهم التحوطية من التضخم مع انهيار سوق سندات الخزانة الأميركية، ثم تسببت موجة البيع لوصول بعض صناديق التحوط التي تراهن على صعود السلع للمستوى الذي تُغلق عنده المراكز لوقف الخسارة، ما أجبرتها على البيع، لتدفع أنواع النفط المعيارية للتراجع، وهنا ساءت الأمور أكثر إذ بدأت التحركات في سوق عقود الخيارات.
الأسبوع الماضي، تراجع خام غرب تكساس الوسيط إلى نطاق يتراوح بين 65 إلى 70 دولاراً للبرميل إذ باع منتجو النفط الصخري الأميركي وحكومة المكسيك كميات كبيرة من إنتاج 2023 الخاص بهم مقدماً. واضطرت مصارف وول ستريت إلى بيع العقود الآجلة للنفط لحماية نفسها من الخسائر الناجمة عن عقود خيارات البيع التي باعتها لشركات النفط الصخري والمكسيك، ما نجم عنه تدهور كبير في الأسعار. تعرف حلقة ردود الأفعال العائدة باسم صدمة "غاما" السلبية، نسبة إلى أحد الحروف اليونانية التي يستخدمها المضاربون في تسعير عقود الخيارات.
بينما انتشر الانهيار في سوق عقود المشتقات المالية، كان مسؤولو "أوبك+" يلتمسون الارتياح بمناطق أخرى، إذ بقيت هوامش ربح مصافي التكرير الأميركية، على سبيل المثال، قوية للغاية أثناء الهبوط، ما يُعد دليلاً على أن الطلب الأساسي ما يزال قوياً. واستمر شكل منحنى أسعار العقود الآجلة الخاصة بخام برنت أقوى مما كان عليه في ديسمبر الماضي عندما شوهدت آخر نوبة هبوط كبيرة في أسعار النفط، إذاً ربما، فقط يكون الهبوط مبالغاً فيه.
توقعات صعود أسعار النفط متفائلة وجريئة
يؤمن المسؤولون في "أوبك+" بأن سوق عقود المشتقات ستبقى في حالة اضطراب لبعض الوقت. لكن في نهاية المطاف، يُفترض أن قوة الاختلال في ميزان العرض والطلب، والمتوقعة في النصف الثاني من السنة الحالية، ستعود إلى فرض نفسها، ما سيرفع الأسعار، أو هكذا تقوم الفكرة. وبالنسبة إلى المضاربين على صعود أسعار النفط، ستكون الفترة الممتدة من 10 إلى 15 أسبوعاً مقبلة فترة صعبة، حتى لو كان التحالف محقاً في رأيه حول الإنتاج والطلب.
إن ما يثير قلق "أوبك+" أكثر هو حقيقة أن نقص المعروض خلال النصف الثاني من العام الجاري قد يقل كثيراً عن المتوقع في الوقت الحاضر. حالياً، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يتجاوز الطلب حجم المعروض من النفط بأكثر من مليون برميل يومياً بين شهري يوليو وسبتمبر المقبلين، وبأكثر من 1.5 مليون برميل بين شهري أكتوبر وديسمبر المقبلين. إلى حد الآن، يُعد ذلك جيداً للغاية بالنسبة لتحالف النفط.
لكن هذه التوقعات المتفائلة تقوم على حدوث هبوط كبير في إنتاج روسيا من النفط وهو ما لم يتحقق حتى الوقت الراهن. ضخت موسكو 11.4 مليون برميل يومياً في يناير الماضي وهي الكمية الأكبر منذ غزوها أوكرانيا قبل ما يفوق العام. وبداية من مارس الحالي، توجد دلائل محدودة جداً على وقوع تراجع كبير، رغم إعلان الكرملين عن تقليص الإنتاج يومياً بمقدار 500 ألف برميل خلال الشهر الجاري. ورغم استخفافها دوماً بقوة الإنتاج الروسي على مدى أكثر من سنة، تراهن وكالة الطاقة الدولية مرة ثانية على هبوط ضخم في الإنتاج مع مرور السنة الحالية، وتتوقع أن ينكمش الإنتاج الروسي بحلول الربع الثالث إلى 10.1 مليون برميل فقط، وهي توقعات جريئة.
إذا حقق إنتاج النفط الروسي المفاجأة مجدداً وصعد، فقد يتراجع النقص المتوقع في المعروض في النصف الثاني من السنة بمقدار النصف. رغم ذلك، سينخفض المعروض مقابل الطلب خلال الفترة من يوليو إلى ديسمبر المقبلين، ما يضطر المستهلكين للسحب من مخزوناتهم.
سيفرض ضعف الطلب على مستوى العالم مشكلة حقيقية على "أوبك+" في حال تحولت أزمة القطاع المصرفي لركود اقتصادي كامل في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
ما الذي يتطلبه ارتفاع أسعار النفط؟
توجد عدة أمور يحتاج تحالف "أوبك+" أن تسير في صالحه. أولاً، يحتاج إلى وفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتعهده بتقليص الإنتاج الروسي- أو أن تبدأ عقوبات النفط الغربية على موسكو في إجبارها على الحد من الإنتاج. ثانياً، يحتاج التحالف في الواقع إلى زيادة معدلات استهلاك الخام في الصين والهند مع مرور الوقت من السنة الجارية وليس فقط أن تستمر قوة الطلب. ثالثاً، يحتاج إلى أن تستطيع البنوك المركزية الغربية تفادي هبوط الاقتصاد هبوطاً عنيفاً، لا سيما في الولايات المتحدة.
يوجد عامل متغير رابع يمكن أن يقدم المساعدة لـ"أوبك+". فقد تدهور معدل نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة العام الماضي بسبب تركيز شركات الحفر والتنقيب على رد الأموال للمساهمين بدلاً من زيادة الإنتاج.
ربما يتدهور النمو العام الحالي أكثر في ظل تراجع أسعار العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط خلال 2024 و2025 لتكون أقل من 65 دولاراً للبرميل بكثير.
ومن المفارقة على ما يبدو أن تحالف "أوبك+" يواجه إنتاجاً أقوى من المتوقع في روسيا، التي تُعد أحد أعضائه، وإنتاجاً أضعف من الولايات المتحدة، التي تُعد خصماً له. يجسد ذلك عالم النفط غير المتوازن.
يبقى حدوث عجز المعروض خلال النصف الثاني من السنة الحالية مسألة محتملة، لكنه قد يأتي أيضاً أقل مما يطمح إليه المضاربون على الصعود. من المزمع عقد اجتماع "أوبك+" المقبل على مستوى الوزراء خلال يونيو القادم في فيينا. لكن التحالف سيتحسس الأوضاع بالسوق عندما تلتقي مجموعة صغيرة من الوزراء عبر الإنترنت في اجتماع لجنة المراقبة الوزارية المشتركة بتاريخ 3 أبريل المقبل. في حال تطلب الأمر، ربما تُعجل "أوبك+" بموعد عقد الاجتماع التالي، وقد تبدأ التدخل في السوق. إذا جرى ذلك، فستصبح بمثابة أول مؤشر على أن موقف الدول المنتجة بدأ يتبدل من "غير مذعورة" إلى "قلقة نوعاً ما".