الاقتصاد البريطاني لم يستعِد مستويات ما قبل الجائحة.. ووزير الخزانة يلقي بيان الموازنة الأربعاء

أسوأ من اليابان.. "العقد الضائع" يهدد بتغيير بريطانيا إلى الأبد

مسيرة مشتركة للإضراب تجمع سائقي القطارات والمعلمين وموظفي الجامعات والموظفين الحكوميين في لندن - المصدر: بلومبرغ
مسيرة مشتركة للإضراب تجمع سائقي القطارات والمعلمين وموظفي الجامعات والموظفين الحكوميين في لندن - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

بينما ترزح المملكة المتحدة تحت وطأة نمو اقتصادي هزيل، وإضرابات العاملين، وتهالك البنية التحتية، ووصول قوائم الانتظار بالمستشفيات إلى مستوى قياسي، يستعيد جاسون جيمس ذكريات أزمة اقتصادية أخرى سيطرت على جزء سابق من حياته المهنية بوصفه مصرفياً، أي "العقد الضائع" في اليابان.

جيمس، الذي يبلغ من العمر 58 عاماً، قضى تسعينيات القرن الماضي في العمل لدى "إتش إس بي سي سيكيوريتيز" (HSBC Securities) بالحي المالي في نيهونباشي، طوكيو. شهد ذلك العقد تدهور الأسهم بنسبة 60% وانهيار قيمة الأراضي، ما أدى إلى ظهور بنوك الزومبي -أي التي تستمر في عملها بفضل الدعم الحكومي فقط- واقتصاد غارق في الإفلاسات والديون المعدومة.

لكن استنتاجه هو أن بريطانيا تمرّ بوضع أسوأ في عشرينيات القرن الحالي.

قال جيمس: "المنظومة استمرت في العمل، واستمرت القطارات في سيرها، لا أظن المرء قد شعر بتداعي كل شيء كما يحدث هنا".

توقعه للتدهور الاقتصادي تدعمه الأرقام، فتحليل "بلومبرغ" للبيانات الرسمية وتوقعات "بنك إنجلترا" المركزي (Bank of England) توضح أن المتوسط السنوي للنمو ما بين 2016 -عندما صوَّت البريطانيون بفارق ضئيل للخروج من الاتحاد الأوروبي- و2025 سيكون 0.8%، وهو أدنى من متوسط 1% الذي شهدته اليابان من 1991 إلى 2001، ويشار إلى "العقد الضائع" وسط تحذيرات من اتباع "المسار الياباني" عندما يعاني بلد ما من تباطؤ اقتصادي طويل الأجل.

مع ذلك، فتلك الوصمة لا تمثل إلا جزءاً من المشكلة في المملكة المتحدة التي تواجه معوقات، منها تفاقم التضخم الذي يجعل بريطانيا بيئة اقتصادية مختلفة عن اليابان في التسعينيات.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

فضعف الإنتاجية وانهيار الخدمات العامة وتدهور المعروض من العمالة كلها تشكل خلفية بيان الموازنة الذي سيلقيه وزير الخزانة جيريمي هَنت يوم الأربعاء، والذي يشير إلى عبء طويل الأجل على الاقتصاد يتراجع فيه التفاؤل العفوي للمستهلكين، رغم الموجة الأخيرة من النمو الأعلى من التوقعات. لو حافظت المملكة المتحدة على وتيرة النمو التي حققتها قبل الأزمة المالية العالمية في 2008 لزاد الدخل المتاح للمواطن البريطاني بمتوسط 8 آلاف جنيه إسترليني (9,600 دولار أميركي)، علماً بأن متوسط الدخل السنوي في العام الماضي كان 33 ألف جنيه إسترليني.

كما أن بطء التدخل لحل الأزمة يهدد بتقويض مكانة بريطانيا على نطاق أوسع، من الحيوية المفقودة في لندن إلى ضعف تأثيرها في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والصين في التجارة وتغير المناخ.

لن يكون قلب الأوضاع سهلاً، إذ أنفقت اليابان كثيراً لتخرج من حالة انهيار أصولها وأزمتها المصرفية، لكن بعد الأزمة المالية العالمية والجائحة وحرب روسيا في أوكرانيا، إلى جانب اضطراب السوق الذي حدث خلال الفترة القصيرة التي تولت فيها ليز ترَس رئاسة الوزراء، فالأرجح أن يؤكد هَنت مرة أخرى أن المملكة المتحدة لن تتحمل اتخاذ مسار التحفيز مجدداً.

ما يعني أن من شهدوا الكساد في اليابان ومشكلات بريطانيا حالياً على الأرجح سيرون فرقاً صارخاً.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

"استمر الدَّين العامّ في الارتفاع"، وفقاً لما قاله جيمس الذي شارك في كتابة "الاقتصاد السياسي لأسواق المال اليابانية" (The Political Economy of Japanese Financial Markets) في 1999، ويشغل الآن منصب المدير العام بمؤسسة "دايوا أنغلو- جابانيز فونديشن" الخيرية (Daiwa Anglo-Japanese Foundation) في لندن. وعن الإضرابات في هيئة الصحة العامة (NHS) وفي أرجاء القطاع الحكومي في المملكة المتحدة، قال جيمس: "في اليابان كانت المستشفيات وسيارات الإسعاف وما يشابهها مستمرة في عملها، وبهذه الطريقة استمر المجتمع في العمل، وما زال يعمل الآن حتى".

المصدر: غيتي إيمجز
المصدر: غيتي إيمجز

تفويت الفرصة

في الواقع، مَرّ أكثر من عقد على انخفاض معدل النمو في المملكة المتحدة إلى أقل من المتوقع، فآخر توسع قوي بدأ في التسعينيات عندما كانت اليابان تصارع الأزمة المصرفية. وفي ظل حكومة حزب العمال تحت قيادة توني بلير التي تولت السلطة في 1997، حققت بريطانيا قفزة في النمو الاقتصادي استمرت 47 فصلاً، وعندها شدد وزير الخزانة حينئذ، غوردون براون، على أن دورة "الانتعاش والكساد" الاقتصادية أصبحت ذكرى لن تتكرر.

لكن نشوة الاستهلاك تسببت في الأزمة العالمية، وانهيار بنك "نورثرن روك" (Northern Rock)، والإنقاذ المالي للبنوك الأخرى وضع المملكة المتحدة على مسار مختلف. لم تحرز المملكة المتحدة تقدماً يُذكر، في البداية بسبب ضعف الإنتاجية وتأثير خفض النفقات الحكومية، وتفاقمت الأوضاع بسبب مشكلات المعروض من العمالة نظراً إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي -"بريكست"- وجائحة كورونا.

لا يتوقع "بنك إنجلترا" تحسن الوضع، خلال مدة توقعاته الحالية على الأقل، إذ قدّر في فبراير انخفاض معدل النمو الممكن -أي الحد الأقصى لسرعة نمو الاقتصاد قبل أن يتسبب النشاط الزائد في تفاقم معدل التضخم- إلى 0.7% فقط في 2024 و2025، وهو انخفاض كبير من 1.7% في العقد الثاني من القرن العشرين و2.7% ما بين 1997 و2007.

تباطؤ النمو وما ينطوي عليه من ضعف الإنتاجية يضيف إلى الكميات الهائلة من فاقد الإنتاج، فالفرق بين متوسط معدل نمو بلغ 2.7% قبل الأزمة المالية من 1998 إلى 2007 و"العقد الضائع" الحالي يساوي انخفاضاً في الناتج المحلي بقيمة 800 مليار إسترليني و300 مليار سنوياً في الإيرادات الضريبية.

وتكشف المقارنة مع معدلات نمو أقل، مثل متوسط 2.1% من 2010 إلى 2015، عن تراجع الإنتاج بقيمة 250 مليار إسترليني. أما في حالة استمرار ذلك النمو في الزيادة، لكان متوسط الدخل المتاح للمواطن سيزيد بنحو 2,400 إسترليني.

كيفين لون، أحد كبار الاقتصاديين في "فاثوم كونسلتينغ" (Fathom Consulting) قال: "إن الفرق بين ارتفاع الإنتاجية 2% و0.7% -على سبيل المثال- ليس ضخماً إذا نظرت إليه بشكل منفرد، لكن تلك المشكلات تتراكم، وبمرور الوقت تتضاءل الاختيارات المتاحة أمام الحكومة والمواطنين: المناخ أم الصحة أم التعليم أم الحرب؟ لذلك فهذا هو التحدي الاقتصادي الحاسم في عصرنا".

صعوبات متفاقمة

تحوَّل الكفاح من أجل زيادة النمو في بريطانيا إلى هوَس سياسي، خصوصاً بالنسبة إلى حزب المحافظين الحاكم. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الحزب يواجه انتقادات الناخبين بعد مدة من تراجع الاقتصاد الوطني. وقال أحد أعضاء البرلمان من حزب المحافظين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، إن تركيز الحزب على أوروبا، وعلى السعي لتنفيذ "بريكست"، يعني أنه أضاع عملياً 13 عاماً قضاها في السلطة.

اقتصاد المملكة المتحدة هو الأوحد بين مجموعة الدول السبع الذي ما زال أقل حجماً مما كان عليه قبل الجائحة، واتضح ذلك بأكبر تخفيض من "صندوق النقد الدولي" (IMF) للنظرة المستقبلية لبريطانيا في أحدث توقعاته. وفقاً لتقرير الجاذبية الاقتصادية السنوي الصادر عن "إرنست أند يونغ" (EY)، سلبت فرنسا مرتبة بريطانيا بوصفها الوجهة الأفضل للاستثمار الأجنبي في أوروبا في ما يخص المشروعات، كما تفوقت على المملكة المتحدة لتصبح أكبر سوق أوراق مالية في أوروبا العام الماضي، فيما تصارع لندن الشركات التي تفضل الإدراج بالبورصة الأميركية بدلاً من الإنجليزية، مثل "أرم ليمتد" (Arm Ltd.) و"سي آر إتش" (CRH).

كريس سيكلونا هو مسؤول سابق بوزارة الخزانة غطى أخبار اليابان في أثناء الأزمة المالية الآسيوية في 1997، ويشغل الآن منصب رئيس قسم الأبحاث الاقتصادية في "دايوا كابيتال ماركتس" (Daiwa Capital Markets) في لندن. وبالنسبة إلى سيكلونا فإنّ الواضح هو نقص الاستثمار، إلى جانب الإضرابات والشعور العام بعدم الجدوى في المملكة المتحدة، واستخدام القطار فقط سيوضح الفرق.

أشار سيكلونا إلى أن البنية التحتية اليابانية "كانت وما زالت جيدة، تشعر أنك تعيش في اقتصاد غني، وهو شعور ليس من الضروري أن تشعر به في هذا البلد بعد الآن".

استجابة المسؤولين في طوكيو للكساد والانكماش كانت عبر تحفيز ضخم، ما جعل اليابان في النهاية أكبر دول العالم مديونية مقارنة بنصيبها من الإنتاج بنهاية التسعينيات، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

لكن بعد فشل ترَس في رئاسة الوزراء، جزئياً بسبب تخوف المتعاملين من حجم التخفيضات الضريبية في "خطة الإنقاذ" التي أعلنتها على الأقل، أعطى خليفتها، ريشي سوناك، ومن بعده هَنت، وضع المالية العامة الأولوية على مسار مستدام.

تراجع بطيء

مع ذلك ورغم نهاية ترَس الدرامية، فتحذيراتها بأن المملكة المتحدة تواجه تراجعاً منظماً دون تغيير كبير في المسار تكتسب زخماً في البرلمان، حتى بين أعضاء حزب العمال المعارض.

"نحتاج إلى النمو، وكل الأحزاب الرئيسية تقدم خططاً،" وفقاً لما قاله أندي هالدين، كبير الاقتصاديين السابق في "بنك إنجلترا"، الذي عمل على استراتيجية وسياسة الحكومة لـ"تنمية" المناطق الأفقر في المملكة المتحدة، لكنه أشار إلى الحاجة إلى مزيد من التفاصيل لتحقيق هدف سد الفجوات المحلية وإنعاش الصناعة.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

يشكل رأي كثير من الاقتصاديين في ما يجب أن تقوم به المملكة المتحدة للعودة إلى مسارها مشكلة كبرى، إذ إنّ تخفيف قواعد "بريكست" التي تعوق التجارة مع الاتحاد الأوروبي والتخطيط للإصلاحات وزيادة الهجرة مسائل صعبة سياسياً. كما أنّ تخطي معدل التضخم نسبة 10% يعني أن تبقى السياسة النقدية في وضع انكماشي، وسط سعى "بنك إنجلترا" لتقييد الطلب.

تكمن المشكلة الحالية في أن الحكومة متمسكة بشدة بسياسة رد الفعل، ففي وسط الضغوط الشرسة لانهيار أسواق السندات، خطط هَنت مؤقتاً لفرض قيود رئيسية على الإنفاق وزيادات ضريبية كبيرة ضمن سياسة شد الحزام التي أطلق عليها اسم "الموجة الثانية من التقشف"، بعد الخفض الكبير في الإنفاق الذي نفذته حكومة المحافظين عند توليها السلطة في 2010، وهو إرث ما زال الحزب والبلد يحاولان التخلص منه.

ترك وزير الخزانة لنفسه مبلغ 9 مليارات إسترليني كمساحة للحركة مقابل قواعده المالية، والأرجح ألا يصبح لديه أكثر من ذلك للمناورة به يوم الأربعاء، فقائمة طويلة من الطلبات الباهظة، مرجح أن تتضمن تمديد مستويات الدعم الحالي لفواتير الطاقة المنزلية، ستترك مساحة ضئيلة لسياسات تحسين النمو مثل زيادة التمويل لرعاية الأطفال.

أدى خفض النفقات إلى التراجع عن طموحات كبرى، منها الربط المخطط بين لندن وشمال إنجلترا بخط سكك حديدية فائق السرعة، ما يقوض خطة "التنمية" المهمة للمحافظين. تحاول الحكومة حل نزاعات الأيدي العاملة من الممرضين إلى المعلمين، كما يوجد على قوائم انتظار الرعاية الصحية الدورية لهيئة الصحة العامة ما يتجاوز 7 ملايين شخص.

"الموضوع لا يتعلق بما حدث في الاقتصاد، بل بما حدث للرعاية الاجتماعية والنظام الوطني للرعاية الصحية والتعليم، يساورك شعور بأن جوانب كثيرة من هذا البلد في مرحلة انهيار" وفقاً لما قالته جانيت هانتر، أستاذة التاريخ الاقتصادي الياباني بكلية لندن للاقتصاد، التي كانت تعيش في اليابان في تسعينيات القرن الماضي.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك