تواجه البنوك المركزية في الأسواق الناشئة مُعضلة تتمثل في أن النمو الاقتصادي المتدهور يعني أنها لا تستطيع مواصلة تشديد السياسة النقدية، لكن التضخم المرتفع لا يسمح لها بوقف زيادات الفائدة أيضاً.
النتيجة هي خطورة متزايدة بحدوث أخطاء في السياسة النقدية. فهذه البلدان من بولندا إلى كولومبيا، ومن الهند إلى كوريا الجنوبية، تمر بوضع حرج لمحاولتها تحديد المستوى الدقيق لتكاليف الاقتراض بما لا يؤدي إلى شلل اقتصاداتها، ويكبح أسعار المستهلكين، وهذا العلاج ليس واضحاً ولا سهلاً، فكلما استمر "الاحتياطي الفيدرالي" في رفع أسعار الفائدة، وظل "كوفيد" يعيق الصين، فإن صانعي السياسات في الدول الفقيرة سيظلون تحت رحمة عوامل خارجة عن سيطرتهم.
أزمة كاملة وشيكة
رغم رفعها الفائدة بوتيرة غير مسبوقة، شهدت الأسواق الناشئة هجرة جماعية للمستثمرين العام الجاري. انخفضت السندات السيادية المقومة بالعملة المحلية بأكبر قدر منذ عام 2009 على الأقل، وواجهت العملات أسوأ خسائر سنوية منذ تخلُّف روسيا عن سداد ديونها عام 1998. ورغم تخفيف الصعود منذ أكتوبر بعض هذا التراجع، فإن الاقتصادات الأصغر لا تبعُد سوى بخطوة واحدة تتخذ خطأً حتى تشهد انفجار أزمة كاملة في العملة، وقد تحول أي موجة بيع أخرى دون وصولها إلى أسواق رأس المال، وتزج بها في أزمة تكاليف معيشة أو حتى انهيار اقتصادي مثل انهيار سريلانكا.
لا يزال من المبكر التساهل مع التضخم في الولايات المتحدة
قال تيلمان كولب، محلل الأسواق الناشئة في "يو بي إس" لإدارة الثروات، مشيراً للمعضلة التي يراها في وسط وشرق أوروبا: "أخطاء السياسة النقدية هي بالتأكيد شيء يجب أن نقلق بشأنه. إذا رفعتَ أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس أخرى، فهل سيؤدي ذلك إلى غرق الاقتصاد؟".
درس مرير.. وتحذير مبكر
كانت المجر أول من تعلم هذا الدرس المرير، فبعد واحدة من أسرع دورات التشديد النقدي في العالم والتي شهدت تضاعف الفائدة الرسمية أكثر من 21 مرة في 16 شهراً، توقفت الدولة الواقعة في شرق أوروبا مؤقتاً بعد زيادة في سبتمبر. لكن في غضون أيام، اضطرت لاستئناف موقفها المتشدد بسبب ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى منذ عام 1996، وهبوط عملتها لمستوى قياسي منخفض مقابل اليورو. والآن، يتزايد الضغط في الاتجاه المعاكس، مع انكماش الاقتصاد على أساس ربع سنوي متتالٍ، ويتوقع اقتصاديون شملهم استطلاع لـ"بلومبرغ" حدوث ركود في النصف الأول من عام 2023.
تقدم تجربة المجر تحذيراً مبكراً للعديد من الأسواق الناشئة الأخرى. داخل أوروبا الشرقية، تقف كلٌ من جمهورية التشيك وبولندا في منتصف الطريق، حيث تشير التوقعات إلى أنهما تواجهان احتمال حدوث ركود بنسبة 82.5% و67.5% على التوالي، رغم وقف رفع أسعار الفائدة منذ أشهر. وفي ظل صعود التضخم لخانة العشرات في كلا البلدين، قد لا يكون لديهما مجال لمكافحة التباطؤ الاقتصادي.
قال عامر بسات، الرئيس العالمي للدخل الثابت للأسواق الناشئة في شركة "بلاك روك" في نيويورك: "هناك علامة استفهام حول ما إذا كان البولنديون يستطيعون التوقف عن رفع الفائدة أم لا. فهم يرغبون في التوقف عن زيادات الفائدة لأنهم قلقون بشأن الاقتصاد، لكن التضخم خارج عن السيطرة".
البنوك المركزية التي أهانها الفشل تتواضع وتقلص طموحاتها
الأمر ليس أن الميل نحو التوقف عن التشديد غير مبرر تماماً. فقد أظهر التضخم بالفعل علامات على بلوغ ذروته في العديد من الأسواق الناشئة، وخاصة في أوائل الدول التي رفعت الفائدة مثل البرازيل. وأدى هدوء نمو أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة إلى تشجيع صانعي السياسة والمستثمرين على تحويل الانتباه إلى مخاوف النمو، لكن نماذج مثل المجر فرضت اختباراً حقيقياً، وبعد كل شيء، قد يكون من السابق لأوانه وقف سياسة مكافحة ارتفاع تكاليف المعيشة.
مخاطر متزايدة
تتكرر المعضلة في دولة بعيدة وهي كولومبيا، وقد تعلن الدولة، التي تشتهر بالقهوة زكية الرائحة والزمرد الفاخر والفواكه النادرة، عن شهر سادس على التوالي من ارتفاع أسعار المستهلكين حتى مع تعثر التوسع الاقتصادي. تشير التوقعات لعام 2023 إلى حدوث انخفاض كبير في نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.8% من 7.5% في عام 2022، وتزداد التوقعات سوءاً بسبب عدم اليقين السياسي حول الحكومة اليسارية المُؤلّفة حديثاً، بحسب "باركليز".
قال إريك مارتينيز، محلل العملات في بنك "باركليز": "قد تكون المشكلة أن تنفذ الحكومة الجديدة توسعاً مالياً أكثر قوة، أو أن تصبح قراراتها راديكالية للغاية فيما يخص إعاقة الاستثمار وإنتاج الهيدروكربونات. وهذا من شأنه أن يزيد مخاطر الدولة ويضمن استمرار معدلات الفائدة الأعلى لفترة أطول، وهذا ليس السيناريو الأساسي المتوقع لدينا، لكن لا يزال الخطر قائماً".
لماذا يحفز التضخم "تدمير الطلب"؟
تمتد المعضلة إلى آسيا كذلك، ففي حين أن القارة تنعم بطلبٍ محلي قوي، وفائدة رسمية أقل من مناطق الأسواق الناشئة الأخرى، وتضخم أضعف، فإنها تظل عُرضة لتدفقات رأس المال الخارجة بسبب العائدات الحقيقية السلبية للغاية. كما أن البلدان المجاورة للصين حساسة أيضاً لتقلبات النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
هل تنخفض الفائدة في 2023؟
انقسم مجلس السياسة النقدية في كوريا الجنوبية الشهر الماضي حول موعد وقف دورة التشديد، ومن بين أعضائه السبعة، أراد ثلاثة التوقف بعد زيادة أخرى قدرها 25 نقطة أساس، فيما أراد اثنان الاستمرار إلى ما بعد هذا المستوى، حيث قال أحدهما إنه تم إقرار زيادات كافية بالفعل. يؤكد هذا التباين في وجهات النظر مدى صعوبة تحديد سعر فائدة نهائي في الاقتصادات الناشئة، بينما لم يحدد "الاحتياطي الفيدرالي" بعد ذروة سعره. وفي غضون ذلك، رفض المسؤولون التوقعات السابقة لأوانها من قبل "سيتي غروب" و"نومورا هولدينغز" والتي تفترض بدء خفض الفائدة منتصف 2023.
استطلاع: خطر الركود التضخمي يهدد الاقتصاد العالمي في 2023
في الهند، انخفض النمو الاقتصادي على أساس سنوي بأكثر من النصف إلى 6.3% في الربع الماضي حتى مع بقاء نمو أسعار المستهلك فوق النطاق الأعلى للمستوى المسموح به من قبل صانعي السياسة النقدية. وتقاعست الدولة في رفع تكاليف الاقتراض وأضافت 190 نقطة أساس فقط إلى سعر عمليات الريبو، وهو ما يترك مجالاً لمزيد من التشديد، لكن يمكن أن يقوّض طموحات النمو. ويعد تحديد مسار سياسة بنك الاحتياطي الهندي بعد رفع الفائدة البسيط في ديسمبر نوعاً من التخمين.
قال كارلوس كازانوفا، كبير الاقتصاديين في "يو بي بي" (UBP)، لتليفزيون "بلومبرغ" إن الحاجة إلى تحقيق التوازن بين معالجة التضخم والحفاظ على النشاط الاقتصادي ستظهر في جميع أنحاء العالم العام المقبل، لكن المعضلة وصلت بالفعل إلى آسيا.
بِشكل عام، تزداد جاذبية وقف رفع الفائدة في الأسواق الناشئة، ما يسلط الضوء على الإجهاد من دورات التشديد. وعلى سبيل المثال، في بولندا، أظهرت أحدث بيانات التضخم قراءة أضعف للمرة الأولى منذ ثمانية أشهر، وعادت الحجج الداعية لإنهاء التشديد إلى الظهور في الحال.
كتب دان بوكسا، كبير الاقتصاديين لمنطقة وسط وشرق أوروبا في "يونيكريديت" (UniCredit SpA)، في مذكرة: "نطاق رفع الأسعار الإضافي ضيق، لكن الالتزام القوي بترك الفائدة دون تغيير في وقت ترتفع فيه ضغوط التضخم يبدو سابقاً لأوانه وغير مرن. والبنوك المركزية تلتزم في وقت مبكر جداً بإنهاء رفع أسعار الفائدة".