بعد مرور أقل من أربعة أسابيع على استقلال جنوب السودان في عام 2011، وصل وفد من تجار "غلينكور" (Glencore) على متن طائرة خاصة بحثاً عن النفط. كانوا يحملون معهم مبلغاً نقدياً تصل قيمته إلى 800 ألف دولار لتقديم الرشاوى.
تم الكشف عن ذلك إلى جانب عدد من التفاصيل في قاعة محكمة في لندن يوم الأربعاء، حيث أظهرت كيف أنه بعد عقود من إنشاء مؤسس "غلينكور" مارك ريتش الصورة الشعبية لتجار السلع الذين يعبرون القارات لتوزيع الرشاوى مقابل عقود مربحة، لم يطرأ أي تغيير ملحوظ في الطريقة التي كان بعض التجار في الشركة يمارسون بها أعمالهم.
أظهر "مكتب قضايا الاحتيال الخطيرة" (Serious Fraud Office) في المملكة المتحدة كيف دفعت "غلينكور" رشاوى تجاووزت قيمتها 28 مليون دولار في خمس دول أفريقية على مدى خمس سنوات حتى عام 2016، باستخدام أساليب كانت في بعض الحالات نسخاً من الصفقات التي أبرمها ريتش في 1970 و1980.
وقام تجار "غلينكور" بتوزيع كميات كبيرة من النقد على المسؤولين الحكوميين، كما سعوا إلى الاستفادة من الاضطرابات السياسية، وشاركوا في إبرام صفقات بين الحكومات تم التفاوض عليها بأسعار تفضيلية.
جنوب السودان
في جنوب السودان، أضاعت الشركة القليل من الوقت. أصبحت الدولة الواقعة شرق أفريقيا دولة مستقلة في 9 يوليو 2011. وبحلول 21 تموز، سافر مسؤول تنفيذي في شركة "غلينكور" – أشار إليه مكتب قضايا الاحتيال الخطيرة فقط باسم "جي إي 7" (GE7) وكعضو في لجنة أخلاقيات الأعمال في الشركة لمكتب لندن - على متن طائرة "لإقناع رئيس جنوب السودان وآخرين في الحكومة" بمنح مشروع "غلينكور" المشترك في البلاد عقداً لبيع نفطها.
بعد بضعة أيام ، وصل موظفان آخران إلى العاصمة جوبا وبحوزتهما مبلغاً نقدياً يصل إلى 800 ألف دولار. وأشاروا إلى أن هذا المبلغ مخصص لـ"فتح مكتب في جنوب السودان، والنقود هي مقابل البنية التحتية للمكاتب، والرواتب، والسيارات، وما إلى ذلك من مدفوعات"، لكن، في الواقع استخدم وكيل "غلينكور" المحلي جزءاً من هذا المبلغ لدفع رشاوى.
وبعد بضعة أشهر، زار مساعد رئيس جنوب السودان المديرين التنفيذيين لشركة "غلينكور" في زيوريخ ولندن. وسحب مسؤول تنفيذي في "غلينكور" 275 ألف دولار أخرى من "مكتب النقد" الخاص بالشركة في مقرها في سويسرا، ليعُرض في اليوم التالي على وحدة "غلينكور" في جنوب السودان إبرام صفقة نفطية.
قضى تجار السلع سنوات في محاولة للنأي بأنفسهم عن الصورة التي صنعوها لتجارتهم في أيام شخصيات مثل مارك ريتش، وبدلاً من ذلك قدموا أنفسهم كشركات لوجستية، ينقلون النفط والمعادن والحبوب من نقطة معينة إلى وجهة محددة استجابةً لإشارات السوق.
تقديم الرشاوى
لكن الكشف عن تجارة "غلينكور" في أفريقيا يأتي بعد ستة أشهر فقط من اعتراف الشركة المدرجة في لندن بذنبها خلال قضايا أميركية ذات صلة، في حين اعترفت مجموعة "فيتول غروب" (Vitol Group) التي تعمل في تجارة النفط بدفع رشاوى في ثلاث دول في أميركا اللاتينية، واتهم المدعون البرازيليون مجموعة شركة "ترافيغورا" (Trafigura Group Pte Ltd) لتجارة النفط بالتورط في مخطط رشوة. لكن الشركة نفت هذه المزاعم.
اعترفت "غلينكور" بذنبها، ومن المقرر أن يصدر الحكم بحقها في قضية ضدها في المملكة المتحدة يوم الخميس. في هذا الإطار، يخضع حالياً حوالي 11 موظفاً سابقاً للتحقيق في مخالفات جنائية، وفقاً لما قاله مدعٍ عام في مكتب قضايا الاحتيال الخطيرة في 24 أكتوبر.
من جهتها، وصفت ألكسندرا جيليز، مؤلفة كتاب نوايا الخام ، وهو كتاب يدور محوره عن الفساد القائم في صناعة النفط: "الفساد الموصوف فاضح للغاية. كان كذلك قبل 10 سنوات". وأكدت: "أن اخضاع المديرين التنفيذيين والموظفين المعنيين للمساءلة القانونية، أمر لابدّ منه". ومن الواضح أن الرشوة كانت جزءاً لا يتجزأ من نهج الشركة وسياستها لتحقيق أكبر قدر من الأرباح في بعض أفقر بلدان العالم".
خلال جلسة الاستماع التي حضرها رئيس "غلينكور"، كاليداس مادهافيدي، عبر محامي الشركة عن مدى تأسف وندم الشركة دون تحفظ، للضرر الناجم عن هذه المخالفات. ورفض مادهافيدي التعليق على الإجراءات التي ستتخذها الشركة عندما اتصلت به "بلومبرغ" خارج المحكمة.
التغاضي عن الفساد
أوضحت قضية مكتب قضايا الاحتيال الخطيرة كيف دفعت "غلينكور" في نيجيريا ملايين الدولارات إلى وسيط، استُعين به لرشوة المسؤولين في شركة النفط الحكومية، باستخدام عقود صورية بهدف إخفاء الغرض الحقيقي من المدفوعات. كما نقل الوكيل النيجيري أموالاً نقدية على متن طائرة خاصة إلى الكاميرون، ليتسلمها تاجر "غلينكور" لرشوة المسؤولين في شركة النفط والغاز الحكومية ومصفاة الدولة.
في ملاوي، استعانت "غلينكور" بكتاب قواعد كان ريتش رائداً فيه قبل 40 عاماً. ففي عام 1980، وبفضل موظف جريء ذهب باسم مستعار هو "السيد ندولو"، أدخلت الشركة التجارية نفسها في صفقة بين حكومة إيران وحكومة بوروندي، مستفيدةً بذلك من شروط الدفع بدون فوائد التي كانت طهران مستعدة لتقديمها إلى حليفها الأفريقي الأكثر فقراً.
فصّل المكتب في ملخص القضية، كيف عملت شركة " غلينكور" بالأمر نفسه في صفقة نفط أُبرمت بين حكومة نيجيريا وملاوي. كما فرض تجار ومديرون تنفيذيون من "غلينكور" عقوبات على تقديم الرشاوى لمسؤولين في شركة النفط الحكومية النيجيرية من أجل "الاستفادة من ميزة 'الائتمان المجاني' المتضمنة في اتفاقية المشروع المشترك"، نقلاً عن المكتب.
في هذا السياق، أشار المكتب إلى أن لدى "غلينكور" سياسات لمكافحة الفساد عند ارتكاب المخالفات، لكنّه قال: "تم تجاهلها إلى حد كبير لأنه تم التغاضي عن الفساد بشكلٍ كبير داخل الشركة".