قد ينتهي الأمر بمسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى الإفراط في تشديد السياسة النقدية، ودفع الاقتصاد الأمريكي نحو الركود بسبب افتقارهم إلى وسيلة سهلة للخروج من مسارهم الجديد المتمثّل في زيادة أسعار الفائدة بنسب كبيرة غير اعتيادية.
رفع البنك المركزي الأمريكي سعر الفائدة القياسي بثلاثة أرباع نقطة مئوية، أي بثلاثة أضعاف الزيادة المعتادة، وذلك للمرة الثالثة على التوالي في اجتماعه يوم الأربعاء الماضي، وفاجأ المستثمرين بالإشارة إلى إمكانية فرض زيادة رابعة مماثلة في اجتماعه المقبل بشهر نوفمبر.
هذا التقشف السريع، الذي جاء استجابة لاستمرار ارتفاع مستوى التضخم، يدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي للوصول إلى مبتغاه النهائي بشأن أسعار الفائدة بسرعة تفوق ما تصوّره أي شخص قبل بضعة أشهر فقط. قد يواجه المسؤولون عن صناعة السياسة النقدية صعوبة في التحوّل إلى وتيرة أبطأ في زيادة أسعار الفائدة بسبب تركيزهم على التطورات قريبة المدى، رغم أن إجراءات هذه السياسة تستغرق بعض الوقت قبل ظهور تأثيرها.
قال جوناثان ميلار، كبير الاقتصاديين الأميركيين لدى بنك "باركليز" في نيويورك: "بالنسبة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، يبدو الأمر شبيهاً بهذه الصورة: عندما تقود سيارتك على طريق سريع، فإن كنت لا تعلم مكان الخروج من الطريق، ستتحرك بسرعة بطيئة وتسير في الحارة اليمنى. أما هم، فيسيرون في الحارة اليسرى حيث السرعة عالية، وقد يفوتهم المخرج لأنهم لا يرون الإشارات".
أظهرت التوقعات الفصلية المنشورة من قبل اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، الأربعاء، أن المسؤولين يرون ضرورة حالية لرفع معدل البطالة إلى 4.4% في نهاية العام المقبل، مقابل 3.7% الشهر الماضي، وذلك لخفض التضخم من أعلى مستوياته في أربعة عقود. هذا يعني أن نحو 1.2 مليون عامل قد يدفعون ثمن معركة الاحتياطي الفيدرالي مع التضخم بفقدان وظائفهم.
رفع جديد قادم
لتحقيق ذلك، يرى المسؤولون عن السياسة النقدية حاجة إلى رفع معدل الفائدة المعياري بمقدار 1.25 نقطة مئوية أخرى هذا العام، بحسب أوسط توقعاتهم. يعني ذلك مناقشة زيادة قدرها 75 نقطة أساس أخرى في الاجتماع المقبل يومي 1-2 نوفمبر، يليه تحوّل إلى زيادتها بمقدار نصف نقطة في منتصف شهر ديسمبر. وقد قاموا برفع أسعار الفائدة فعلياً مما يقارب الصفر في شهر مارس الماضي إلى النطاق المستهدف الحالي عند 3%-3.25%.
إلا أن الرئيس جيروم باول قال للصحفيين، الأربعاء إنه يتعين على البنك المركزي التأكد من تحقق بعض التطورات، بما في ذلك تباطؤ سوق العمل مع ظهور "دليل واضح" على اعتدال مستوى التضخم، قبل أن يبدأ في إبطاء وتيرة السياسة النقدية التقشفية.
مع ذلك، يرى الاقتصاديون أن الاحتياطي الفيدرالي قد يتجاوز الحدود المقبولة بسبب هذه الزيادات الشديدة في أسعار الفائدة.
قالت سيمونا موكوتا، كبيرة الاقتصاديين لدى "ستيت ستريت غلوبال أدفايزرز" (State Street Global Advisors) في بوسطن: "التشديد الجنوني ليس جيداً أبداً وهذا ما وصلنا إليه إلى حد كبير. حان وقت التوقّف قليلاً لأن الضغوط الانكماشية بدأت تتشكّل تحت السطح. الأمر لا يبدو سهلاً مثلما كنا قبل عام ".
ورغم ذلك، تشير البيانات الأسبوعية حول المطالبات الأولية بإعانة البطالة، الصادرة عن وزارة العمل الخميس، إلى أن أسعار الفائدة المرتفعة لم تؤثر على سوق العمل بعد. فما زالت هذه المطالبات عند 213 ألف طلب في الأسبوع المنتهي بتاريخ 17 سبتمبر وهو رقم يقترب من أدنى مستوياتها في أربعة أشهر.
مؤشر أسعار المستهلك
بقي التضخم كذلك عنيداً عند مستواه المرتفع رغم توفّر الكثير من الأسباب الوجيهة لتوقُّع انخفاض كبير في ضغوط زيادة الأسعار، فقد بدأت تتلاشى مشكلات سلاسل التوريد العالمية، وبدأت أسعار السيارات المستعملة تسجل انخفاضاً بشكل كبير، وفقاً لبعض مؤشرات القطاع الخاص، بالإضافة إلى هبوط أسعار السلع الزراعية.
لكن تلك العوامل لم تنعكس حتى الآن على مؤشر أسعار المستهلك الذي سجل 8.3% خلال 12 شهراً حتى أغسطس، وهو ما يقترب من أعلى مستوياته منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي. وليس واضحاً متى ستنعكس تلك العوامل بتأثيرها على المؤشر، ولكن من المقرّر أن يصدر تقرير شهري واحد فقط لمؤشر أسعار المستهلك قبل اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في نوفمبر.
بينما تشير توقعات البنك المركزي إلى زيادة أخرى بنحو ثلاثة أرباع نقطة في ذلك الاجتماع بناءً على التقدير الأوسط، قد يشهد الاجتماع نقاشاً مثيراً. فلا يعتقد إلا 10 فقط من 19 مسؤولاً في الاحتياطي الفيدرالي أن تشديداً آخر للسياسة النقدية، بما لا يقل عن 1.25 نقطة مئوية، سيكون مناسباً هذا العام، مما يعني أن نصفهم تقريباً يميلون بشكل أكبر نحو رفع الفائدة بمقدار بنصف نقطة في نوفمبر.
قالت ليندسي بيغزا، كبيرة الاقتصاديين لدى شركة "ستيفل نيكولوس" (Stifel Nicolaus & Co) في شيكاغو: "السيناريو الافتراضي في وقتنا الحالي هو زيادة الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس للمرة الرابعة على التوالي، ولكن هناك نقاش مثمر يدور حالياً حول احتمال زيادتها بمقدار أقل. يريد مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي أن يظهروا جبهة قوية ومتماسكة، ولكن تلك الجبهة المتحدة تعاني أيضاً من انشقاقات".