أصبحت سوق سندات الخزانة الأميركية، التي تبلغ قيمتها 24 تريليون دولار، سوقاً كبيرة جداً حتى على "أسياد الكون"، وفي ظل تصفية الاحتياطي الفيدرالي برنامج مشتريات السندات وعودة المزيد من الأوراق المالية الحكومية مرة أخرى إلى أيدي الوسطاء والبنوك والمستثمرين والمتداولين، تزداد فرص التقلبات المتطرفة غير الصحية، ونحن نعيش حالياً اللحظة التي يخشاها المنظمون والمشاركون في السوق، وهي أن يظهر مزيد من المشاهد التي تشبه ما وقع في مارس 2020 وسبتمبر 2019 عندما تعطلت أجزاء من السوق وخرجت الأسعار عن السيطرة، وهو أمر بالغ الأهمية، لأن سوق سندات الخزانة تعتبر أهم الأسواق كأساس للأصول المالية المسعرة بالدولار في جميع أنحاء العالم.
اتخذت هيئة الأوراق المالية والبورصات الخطوة الرسمية الأولى لمنع السوق من الانهيار، واقترحت يوم الأربعاء زيادة عمليات التداول في السندات الحكومية التي تجرى عبر غرف المقاصة المركزية، وتقلل المقاصة من مخاطر فشل أي من طرفي التداول في تنفيذ دوره في الصفقة، كما يمكن أن تسمح لعدة أطراف بتسوية المراكز الاستثمارية بعضها مقابل البعض الآخر في نفس الوقت، ما يمنح الجميع مزيداً من القدرة على التداول.
ليست دواء لكل داء
إذا كان هناك عدد كافٍ من البنوك والمستثمرين والمتعاملين الآخرين القادرين على استخدام المقاصة ويفعلون ذلك، فسيكون ذلك مفيداً، لكنها ليست دواءً لكل داء، وهناك العديد من التغييرات الأخرى التي يجب تطبيقها بهدف طويل الأجل يتمثل في تشجيع المزيد من اللاعبين في السوق على أن يكونوا قادرين على التداول مباشرة مع بعضهم بعضاً بدلاً من الاعتماد بشكل كبير على 25 من المتعاملين الرئيسيين، وهم البنوك الملزمة بتقديم عطاءات في مزادات الخزانة ومصرح لها بالتداول مع الاحتياطي الفيدرالي. وفي الأسبوع الماضي، دعم صندوق الاستثمار في السندات الأميركية العملاق، "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت" أو "بيمكو"، ما يعرف بتداول "الجميع مع الجميع" (all-to-all) والذي يسمح لطرفي البيع والشراء بالتداول بشكل مجهول بغض النظر عن نوع الشركات ويتيح لشركات إدارة الأصول أن تلعب دور مزود السيولة للمتعاملين الرئيسيين ولبعضها بعضاً.
الوسطاء قلب المشكلة
يكمن جوهر المشكلة في مدى قدرة المتعاملين الرئيسيين على لعب دور الوسيط في تداول سندات الخزانة، مما يجعل حالات الاضطراب والخلل في السوق أكثر تواتراً، بحسب تقرير صدر العام الماضي أجرته مجموعة عرفت باسم "مجموعة الثلاثين" (Group of 30) وتضم مسؤولين سابقين بالبنك المركزي والجهات الرقابية مع أكاديميين.
بلغ الفزع حده الأقصى في مارس 2020 على وجه الخصوص، عندما تنبهت الولايات المتحدة وأوروبا لمدى خطورة وباء كوفيد 19 الذي دفع المستثمرين إلى بيع كل شيء والاحتفاظ بالنقدية، وبدلاً من أن تعمل كملاذ آمن في أوقات الاضطرابات كالمعتاد، انهارت أسعار سندات الخزانة على نحو غير متوقع مع جفاف السيولة، وقفزت العائدات.
مثل هذه الأحداث يكاد يكون من المستحيل الاحتراز منها، أما النوبة التي أصابت أسواق المال في سبتمبر 2019، والتي شهدت ارتفاعات هائلة في أسعار الاقتراض لليلة واحدة، فكانت نتيجة اتباع الاحتياطي الفيدرالي لسياسة نقدية أكثر تشدداً، وهو أمر كان يتعين عليه أن يضطلع به دون نسف الأسواق، ولا أحد يعرف بالضبط تأثير التشديد الكمي في السياسة النقدية اليوم، ولكن من المرجح أن تكون الرحلة صعبة بنتائج غير متوقعة.
أيضاً، من المتوقع أن تستمر سوق سندات الخزانة في النمو لتصل إلى 40 تريليون دولار بحلول عام 2032 إذ تقترض الحكومة لتمويل العجز الكبير في الموازنة، وإذا كانت البنوك تعاني اليوم في ممارسة دور الوسيط، فسيكون من الجنون الاعتماد عليها وحدها للتعامل مع سوق أكبر كثيراً في المستقبل، وهذه هي رؤية صناع السوق من المؤسسات غير المصرفية مثل شركة "سيتادل سيكيوريتيز" (Citadel Securities)، وهي رؤية يصعب الاختلاف معها.
تقلص حجم الصفقات التي تعالجها البنوك بشكل كبير مقارنة مع حجم سوق سندات الخزانة، وقبل عام 2008، كان حجم التعاملات التي يجريها المتعاملون الرئيسيون يعادل حوالي 15% من قيمة سندات الخزانة المطروحة، والآن تقف النسبة عند 2.5% فقط، بحسب تقديرات "بنك أوف أميركا"، وهو أحد المتعاملين الرئيسيين.
القواعد.. مشكلة أخرى
ترى بنوك مثل "جيه بي مورغان تشيس"، وهو أيضاً متعامل رئيسي، أن المشكلة تكمن في تغيير القواعد الذي جرى بعد الأزمة المالية لجعل البنوك أكثر أماناً وأقل عرضة للخسائر المفاجئة في التمويل، وجعلت القواعد الجديدة من الصعب على البنوك استيعاب الأصول الإضافية بسرعة أثناء الانتعاش الكبير في نشاط السوق، خاصة في الأوقات التي يرغب فيها الجميع في البيع.
وتريد البنوك الكبرى تغيير حساب معدلات الرفع المالي، وهي مقياس لحجم مركزها المالي، بحيث تستثني الأصول الأكثر أماناً، وهو شيء فعلته المملكة المتحدة وغيرها من جهات الاختصاص بالفعل، وتريد أيضاً خفض المتطلبات الإضافية من رأس المال التي تفرض على البنوك ذات الأهمية النظامية، هذه التغييرات من شأنها تخفيض متطلبات رأس المال وتحسين أرباح البنوك لكن من الصعب القول إنها ستضمن أن تعمل سوق سندات الخزانة بطريقة سلسة.
كانت القواعد الأهم في عام 2019 والمتعلقة بحجم ونوع الأصول عالية السيولة التي يتعين على البنوك الكبرى الاحتفاظ بها، والتي تشمل سندات الخزانة واحتياطيات البنك المركزي، ودفعت هذه القواعد بعض البنوك إلى تفضيل الاحتياطيات لدى البنك المركزي على سندات الخزانة، وهذا جعلها أقل استعداداً للإقراض بضمان سندات الخزانة في أسواق المال، ما ساهم في الفوضى المشهودة في ذلك العام.
من المؤكد أن تعديل القواعد لمساعدة البنوك على إجراء مزيد من التداولات والتمويل سيفيد سوق سندات الخزانة، لكن ينبغي أن يصبح جعل هذه السوق أقل اعتماداً على البنوك كوسطاء هو الهدف الأكبر، وقد تجادل البنوك بأن العديد من شركات صناعة السوق الإليكترونية أو شركات التداول الرئيسية تلعب دوراً في تقديم السيولة فقط في "الأجواء المواتية" ولكنها تختفي عندما تتدهور أحوال السوق، لكن سيظل لديها دائماً حد لمقدار ما تقوم بتداوله خلال الأوقات الأكثر اضطراباً، وكان هذا صحيحاً قبل عام 2008 بفترة طويلة.
يمكن للاحتياطي الفيدرالي الإقراض بضمان سندات الخزانة لعدد أكبر من المشاركين في السوق وليس البنوك فقط، ما قد يساعد في تخفيف ضغوط التداول في أي أزمة، وسيحتاج البنك المركزي لاستراتيجية إدارة مخاطر مناسبة لحماية دافعي الضرائب، لكن دور "المتعامل في اللحظات الأخيرة" هذا بالنسبة لسوق سندات الخزانة سيكون منطقياً في أصعب الأوقات.
أفضل حل؟
وأخيراً، فإن أفضل حل لتجنب الأزمات المتكررة هو الدفع إلى مزيد من التنوع في حجم وأنواع المتداولين والمتعاملين الرئيسيين وصناع السوق الذين يمكنهم التداول مع بعضهم بعضاً، وينبغي أن يساعد التنوع الكبير في المؤسسات ذات المراكز المالية ودوافع الاستثمار المختلفة في ضمان بقاء بعضها نشطاً في السوق عندما ينسحب بعضها الآخر.
ينبغي أن تساعد فكرة المقاصة المركزية التي تقترحها هيئة الأوراق المالية والبورصات على تحقيق ذلك، لكن مزيداً من الشفافية بشأن التداولات وأسعارها وأحجامها أمر ضروري أيضاً لإعطاء الأطراف المختلفة فكرة أفضل عن المكان الذي يجب أن تتداول فيه حيازاتهم. هذه العملية تنجح عند تداول أصول أخرى لذا يفترض أن تكون مفيدة في أهم سوق في العالم أيضاً.