انتهى التشوه الكبير الذي ضرب عالم المال خلال الجائحة، إذ يساعد الوضع الطبيعي الجديد على تغذية أسوأ عمليات بيع عبر الأصول المتعددة منذ عقود.
فبعد أن حوصرت في المنطقة السلبية خلال أيام الإغلاق؛ بدأت عوائد سندات الخزانة الأميركية المعدلة حسب التضخم في الارتفاع مرة أخرى، إذ عادت مقاييس 5 و10 سنوات بالقرب من أعلى مستوياتها في عدة سنوات.
وفي إشارة أخرى إلى أنَّ عصر النقود المجانية لم يعد موجوداً، قفزت أسعار العائد الحقيقية قصيرة الأجل فجأة هذا الأسبوع إلى أعلى مستوياتها منذ مارس 2020 بعد أن تحولت أخيراً إلى إيجابية في أوائل أغسطس.
كل هذا يمثل أخباراً سيئة لمديري الأموال في جميع المجالات، إذ يصعّب تبرير المخصصات الحساسة للسعر بدءاً من أسهم التكنولوجيا وصولاً إلى سندات الشركات طويلة الأجل. وتنتشر العوائد الحقيقية المتزايدة - التي يُنظر إليها على أنَّها التكلفة الحقيقية للمال بالنسبة للمقترضين - عبر الاقتصاد مع ارتفاع أسعار الرهن العقاري، بينما تتكيّف الشركات الأميركية الكبرى مع التكلفة الأعلى لممارسة الأعمال التجارية.
إلا أنَّ الحال يمكن أن يصبح أسوأ بكثير. فالتفكير السائد بين متداولي "وول ستريت" يتركز في أنَّ سياسة "الاحتياطي الفيدرالي" المتشددة بأي ثمن مصمّمة بشكل متزايد على هندسة ظروف مالية أكثر صرامة - من خلال أسعار الأسهم المنخفضة وعائدات السندات الأعلى - من أجل مكافحة التضخم المشتعل.
يُشير ذلك إلى أنَّ المستثمرين في كل فئة من فئات الأصول يواجهون فوضى جديدة في السوق، إذ يتوقَّع بنك "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs) أنّ العوائد الحقيقية لأجل 10 سنوات تقترب من المستويات التي من شأنها تقييد النشاط الاقتصادي بشكل ملموس.
تعليقاً على الموضوع، قال كريستيان مولر غليسمان، العضو المنتدب لاستراتيجية المحفظة وتخصيص الأصول في بنك "غولدمان ساكس": "ستكون الأشهر القليلة المقبلة للأسهم مليئة بالمطبات، وهناك خطر حدوث مزيد من التراجع إذا استمرت هذه الديناميكية المتمثلة في ارتفاع العائدات الحقيقية مع تباطؤ النمو".
بدأ الارتفاع الأخير في العائد مع أصداء اضطرابات يونيو عندما فاجأ "باول" المستثمرين في منتدى جاكسون هول برسالة حزينة مفادها أنَّ تكاليف الاقتراض ستحتاج إلى الارتفاع والبقاء في المنطقة التي يحتمل أن تقيّد النمو لخفض التضخم. ومنذ ذلك الحين، تقدّمت الأسعار الحقيقية لأجل 5 و10 سنوات في الولايات المتحدة بنحو 30 و38 نقطة أساس، بينما انخفض مؤشر "ناسداك 100" المثقل بأسهم شركات التكنولوجيا بنسبة 8%.
في هذا الصدد، قال تشارلي ماكليغوت، المحلل الاستراتيجي للأصول المتعددة في "نومورا هولدينغز" (Nomura Holdings): "من المرجح أن تتوافق أي ارتفاعات جديدة متعددة السنوات في العوائد الحقيقية مع انخفاض جديد في الأسهم".
يؤدي ارتفاع العوائد المعدلة حسب التضخم إلى الضغط على أمثال أسهم التكنولوجيا، نظراً لأنَّه يتعين الآن خصم توقُّعات أرباح الشركة على المدى الطويل بمعدلات أعلى. وفي الوقت نفسه، تبدو الأصول المحرومة من تدفقات الدخل مثل الذهب والعملات المشفَّرة أقل جاذبية نظراً لتكاليف الفرصة الأكبر للاحتفاظ بها، مقارنة بسندات الخزانة التي تدفع عائداً حقيقياً.
قال "مولر غليسمان": "هناك منافسة واضحة من عائدات السندات الحقيقية الأعلى لأي نوع من أنواع مخازن القيمة، خاصة تلك التي تنطوي على مضاربة طويلة الأمد".
كل هذا بعيد عن حقبة ما بعد الأزمة المالية، عندما سعى محافظو البنوك المركزية إلى إعادة تضخيم الاقتصاد من خلال الخفض التاريخي لأسعار الفائدة، والتي دفعت مديري الأموال إلى الأصول الأكثر خطورة من أجل جني المكاسب.
في هذه الأيام، يسود التفكير أنَّ المسؤولين النقديين يسعون بشكل فعال إلى تثبيت أسعار حقيقية أعلى للمساعدة في تخفيف التجاوزات في دورة الأعمال المليئة بالتضخم.
في مقابلة مع "بودكاست" "أود لوتس" (Odd Lots) من "بلومبرغ" بعد "جاكسون هول"، أشار رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" في مينيابوليس، نيل كاشكاري، إلى أنَّ الأسعار الحقيقية هي محرك للنمو الاقتصادي. ولم يستبعد سيناريو يفشل بموجبه التضخم في الوصول إلى هدف البنك المركزي في أي وقت قريب، مما يتطلب تكاليف اقتراض أعلى.
مع ذلك، يجب على صانعي السياسة أن يخطوا بحذر. فالعائد على الأوراق المالية المحمية من التضخم لأجل 10 سنوات يبعد الآن أقل من 30 نقطة أساس عن نقطة التحول 1% التي ستبدأ في إلحاق ضرر خطير بالنمو الاقتصادي، وفقاً لتحليل بنك "غولدمان ساكس". وفي حين قد يعطي تقرير الوظائف الأخير ذخيرة لأولئك الذين يعتقدون أنَّ "الاحتياطي الفيدرالي" يمكنه تأمين هبوط سلس؛ من الواضح أنَّ عدد المتشككين يفوق عدد المتفائلين في الوقت الحالي.
من جانبه قال أندرو شيتس، كبير المحللين الاستراتيجيين للأصول المتعددة في "مورغان ستانلي" (Morgan Stanley)، في مقابلة مع تلفزيون "بلومبرغ" إنَّ: "الكثير من البيانات الاقتصادية تبدو غير مؤكدة حقاً، لذا فإنَّ الموازنة المعتادة لأسعار حقيقية أعلى - التفاؤل الاقتصادي - ليست موجودة، وهذا يستمر في وضع السوق في موقف صعب".