مضى وقت طويل على وجود سوق هابطة للسندات. لقد مر حوالي أربعة عقود منذ انتهاء آخر عقد لهبوط أدوات الدين. بعد أن شهدت الولايات المتحدة وصول التضخم إلى أعلى مستوياته في 40 عاماً (منذ بدء سوق السندات الصاعدة)، ما أدى إلى زيادة الرهانات على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيشرع في تطبيق حملة تشديد أكثر جرأة خلال جيل واحد، بدا أن السوق الهابطة قد بدأت أخيراً.
لكن الشكوك القوية تظل قائمة. انخفضت العائدات بشكل حاد في الأسابيع الأخيرة على الرغم من عدم وجود أي وضوح بأن التضخم قد انتهى.
أدى ذلك إلى انعقاد جلسة تداول غير عادية أمس الثلاثاء، حيث ارتدت السندات صعوداً. قد يكون لرئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي دور البطولة في هذا الأمر عبر زيارتها المشحونة إلى تايوان.
باستثناء أسوأ يومين فقط أثناء عمليات الإغلاق الأول إبان " كوفيد-19" ويوم الإثنين من شهر يونيو عندما كشف بنك الاحتياطي الفيدرالي عن نيته رفع أسعار الفائدة بنسبة 75 نقطة أساس في اجتماعه المقبل، كان هذا أكبر مكسب يومي لعائدات السندات لأجل 10 سنوات في خمس سنوات.
كيف حدث هذا؟ على مدار الأربعين عاماً الماضية، كلما بدا أن الأمور على وشك الانهيار، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يرد بتوفير أموال أرخص ويعيد العائدات إلى الانخفاض مرة أخرى. ساعدت استجابته الطارئة لمواجهة الوباء على انخفاض أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية في عام 2020.
مع عودة التضخم، بدا أن هذا النموذج قد انهار، ما أدى إلى زيادة العوائد هذا العام. لكن منذ يونيو، بدا الأمر كما لو أن السوق تقع ضحية للمخاطر. وانخفضت عوائد السندات لأجل 10 سنوات بنقطة مئوية كاملة.
في الوقت الحالي، تراجع مؤشر "بلومبرغ" العالمي المجمع، الذي يتتبع إجمالي العائدات للسندات الحكومية وسندات الشركات ذات الدرجة الاستثمارية بنسبة 12% تقريباً منذ بداية العام، وهو تحول ملحوظ لأصل يحظى بتقدير بفضل استقراره.
تتسم التداعيات الأوسع نطاقاً بأنها وخيمة، حيث إن السندات لم تلعب دورها المعتاد في التنويع على عكس الأسهم، مما يثير الشكوك حول قدرة التحمل الكلاسيكية "60/40"، إذ يتم استثمار 60% من قيمة المحفظة المالية في الأسهم و40% في السندات.
وفقاً لمؤشر "بلومبرغ"، فإن محفظة 60/40 في الولايات المتحدة كانت ستخسر 19% خلال 2022 حتى حدوث التحول بالسندات في يونيو.
كيف نفسر هذا التغير المحوري؟ يقدم إد هايمان من "إيفر سكور أي إي أي" (Evercore ISI)، الذي بدأ العام متوقعاً أن تصل عائدات السندات لأجل 10 سنوات إلى نطاق يتراوح بين 4% و 5%، قائمة مرجعية سهلة الاستخدام لجميع أحداث الأشهر السبعة الماضية التي أعطت المستثمرين حافزاً لشراء السندات مرة أخرى.
هذه الأحداث في ترتيب تنازلي تقريباً من حيث الأهمية، وعميق بالنسبة لغزو أوكرانيا، وأكثر غموضاً بالنسبة للتطورات الأخرى:
2. زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان
3. احتمال التعرض لصدمة أو أزمة مالية
4. هبوط نمو المعروض النقدي وفقاً لمؤشر "إم 2" وهو أوسع مقياس للمعروض من النقود
5. إشارات مختلفة لتراجع وتيرة التضخم
6. ضعف سوق الإسكان
7. دخول الاقتصاد في حالة ركود
8. حدوث كارثة في أوروبا
9. مخاطر الشرق الأوسط
10. تغير المناخ
في مقطع فيديو للعملاء، قال "هايمان" إنه لم يصدق في البداية قصة "التضخم العابر"، ولهذا السبب توقع أن عائد السندات وسعر فائدة التمويل لدى "الاحتياطي الفيدرالي الأميركي" قد يرتفعان إلى 5%.
يقدم محللون آخرون أيضاً أسباباً لاستمرار انخفاض العائدات. ويتوقع مصرف "بنك أوف أميركا" أن تتراجع عوائد السندات لأجل 10 سنوات إلى 2% في غضون الأشهر الستة إلى الـ12 المقبلة، وسط تباطؤ اقتصادي أكبر.
قال برونو بريزينها الخبير الاستراتيجي في "بنك أوف أميركا" إن عائد السندات لأجل 10 سنوات عند حوالي 2.6 % يتوافق مع نطاق القيمة العادلة التي حددها البنك من 2.35% إلى 2.65%.
أقر "برونو" بأن التحول الأخير في تركيز السوق بعيداً عن التضخم، ونحو أساسيات النمو المتدهورة أدى إلى دفع عائدات السندات لأجل 10 سنوات إلى نطاق قيمتها العادلة بشكل أسرع مما توقعنا.
إلى حدٍّ كبير، انتهى الجزء السهل من الارتفاع. من الممكن حدوث ارتفاع إضافي عن المستوى الحالي وربما يكون كذلك، ولكن إلى أي مدى، يعتمد ذلك على سلسلة من الأمور الأساسية، والمزيد من الدوافع الفنية.
تشمل هذه العوامل احتمالية أن يدرك المستثمرون أن الأسهم باهظة الثمن ويبيعونها لشراء السندات مع استفحال الركود، ووجود الخطر المتمثل في أن التباطؤ غير المنتظم ليس هبوطاً سلساً (التنبؤ الضمني الحالي)، ما قد يؤدي مرة أخرى إلى شراء السندات وندرة أصول الملاذ الآمن الأخرى.
على سبيل المثال، لا يُنظر إلى الجنيه الإسترليني والين على أنهما الملاذان الآمنان، كما جرت العادة، وتقدم سندات الخزانة بشكل متزايد ملاذاً.
كل تلك العوامل لن تختفي على المدى الطويل. لكن على المدى القصير، اتضح أن الانخفاض في عوائد السندات قد تم تجاوزه كثيراً.
لم توضح بيانات الاقتصاد الكلي أمس الثلاثاء أي سبب محدد لبيع السندات. في الواقع، تشير أرقام الوظائف الشاغرة إلى أن سوق العمل تتباطأ قليلاً. بدلاً من ذلك، كانت كلمات وأفعال عدد قليل من النساء كافية لدفع العائدات للارتفاع.
أولا توجد لغة يستخدمها المسؤولون بالفيدرالي الأميركي تتضمن الإدلاء بتصريحات مع القليل من الإفصاح والكثير من الغموض.
تحدث العديد من مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي بشكل رسمي، وأشاروا جميعا إلى أن البريق الذي وضعه المستثمرون من أنصار التسهيل النقدي خلال الاجتماع الأخير للجنة السوق المفتوحة الفيدرالية كان مفرطاً في التفاؤل.
على وجه الخصوص قالت ماري دالي، رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو إن بنك الاحتياطي الفيدرالي "لم يكن قريباً" من محاربة التضخم، في حين قالت لوريتا ميستر التي ترأس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند إنها ستحتاج إلى "دليل مقنع" على أن التضخم كان ينخفض من قبل حدوث أي تغيير في السياسة النقدية.
نظرا لأن بنك الاحتياطي حالياً يتجنب التوجيهات المستقبلية ويتفاعل مع البيانات فور ورودها، فإن مثل تلك الخطابات لمسؤولي "الفيدرالي"، تكون أكثر أهمية وتثير مزيداً من التقلبات. الخسائر والضغوط تعود مجدداً.
المرأة الأخرى التي حركت السوق كانت بالطبع هي نانسي بيلوسي. فقد دفعت الأخبار التي تفيد بأنها تقوم بزيارة إلى تايوان، مع كل المخاطر الجيوسياسية المصاحبة لها، إلى الاندفاع لشراء السندات كونها ملاذاً آمناً.
يظل الوضع متوتراً، لكن عدم وجود رد عسكري صيني فوري أدى إلى تهدئة الجميع، وسمح لعوائد السندات بالارتفاع بشكل حاد.
من الصعب العثور على الكثير من التعليقات التي تدعم "بيلوسي". يمكنك قراءة هذه المقالات التي يكبتها مينكسين بي في قسم الرأي لدى "بلومبرغ" وتوماس فريدمان بصحيفة "نيويورك تايمز" (كان بريت ستيفنس من بين القلائل الذين رحبوا بالزيارة) أو زميلي القديم إدوارد لوس في "فاينانشال تايمز". ودافعت "بيلوسي" عن نفسها في صحيفة "واشنطن بوست".
هل ساهم كل هذا في إضافة دافع قوي لواحدة من أكبر عمليات بيع سندات الخزانة على الإطلاق؟ لا، بالطبع لم يحدث، لكن من طبيعة الأسواق أن تتجاوز الحدود، وقد سجلت عائدات منخفضة للغاية بسرعة كبيرة قبل الزيارة المثيرة أمس الثلاثاء.
كتبت روث كارسون وشارلوت يانغ من "بلومبرغ" أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت حتى يمتد تأثير زيارة "بيلوسي" في الأسواق العالمية.
بالنسبة للمستقبل، فإن مزيج المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية يترك مجالاً لعدد لا نهائي من السيناريوهات، وربما كان من الأفضل توقع حدوث المزيد من التقلبات في سوق السندات.