هل يحتاج بلدك عملات رقمية؟

أغلب البنوك المركزية حول العالم تدرس إصدار عملات رقمية خاصة بها - المصدر: بلومبرغ
أغلب البنوك المركزية حول العالم تدرس إصدار عملات رقمية خاصة بها - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

تدرس 9 من أصل 10 بنوك مركزية إصدار نسخ رقمية لعملاتها الورقية، بحسب نتائج استطلاع أراء السلطات النقدية الذي أجراه بنك التسويات الدولية في عام 2021، ونشره الشهر الماضي.

ويعكس ذلك قناعة الجميع تقريباً بمستقبل العملات الرقمية. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن هل كل دولة بحاجة أن تقوم بذلك الآن؟ ليس صحيحاً.

سواء كنت في بولندا أو بيرو، يتمثل الفارق في تحديد مدى أولوية وجود عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي (CBDC).

تواجه الاقتصادات الأكثر تقدماً تحدياً يتمثل في تراجع الطلب على النقد. فقد تضاءلت حصة العملات الورقية في إتمام معاملات نقاط البيع إلى 11% في أمريكا الشمالية، و19% في آسيا والمحيط الهادئ، و27% في أوروبا.

تتجه العملات الورقية إلى تلاشي استخدامها في التداولات وأن تتكدس في الخزائن، ولذلك قد تصبح ثقة الجمهور في إمكانية تحويل الودائع المصرفية إلى أموال فعلية "مجرد بناء نظري أكثر من كونها تجربة يومية"، على حد وصف، أولريش بندسيل، من البنك المركزي الأوروبي وآخرين.

قد يسبب ذلك تهديداً للاستقرار المالي، خاصةً إذا تم التعامل مع الرموز المميزة الصادرة عن القطاع الخاص، والتي تخضع لقواعد تنظيمية طفيفة، وكأنها عملات مستقرة، وتداول العملات المشفرة مقابل الدولار بمعدل 1:1 عند التحويل، أو استبدال الأصول الأخرى المقبولة على نطاق واسع بالنقود الرسمية.

النقود لا تزال مهيمنة

بالنسبة للأسواق الناشئة، قد يتسبب ذلك في العودة إلى "الدولرة"، ووضع حدٍّ لجهود استمرت لعقود من أجل تأسيس عملات سيادية خاصة بها.

لكن لحسن الحظ لم تعد المشكلة عالمية حتى الآن. فلا تزال النقود تهيمن على مشهد الدفع في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا، حسب تقرير المدفوعات العالمية لعام 2021 الصادر عن"إف أي إس" (FIS)، كما أنه من غير المرجح اختفاء النقود قريباً، حتى في بعض الاقتصادات عالية التطور مثل اليابان، أو بعبارة أخرى، لا تواجه كافة البنوك المركزية نفس الإلحاح من أجل التحوّل الرقمي والاستعداد لمستقبل ما بعد النقود.

إذن من الذي يحتاج إلى عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي أولاً؟ قد يساعد التناقض فيما بين بولندا وبيرو في الإجابة عن ذلك السؤال.

تصنف "إم إس سي أي" (MSCI Inc) الدولتين ضمن الأسواق الناشئة، على الرغم من بلوغ دخل الفرد في الدولة التي تقع في وسط أوروبا 15 ألف دولار، ما يعادل مرة ونصف دخل الفرد في الدولة التي تقع في أمريكا اللاتينية. وكلاهما له تاريخ قصير إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بسيادة العملة.

عندما شرعت بولندا في إعادة بناء اقتصادها الموجّه في السابق خلال حقبة التسعينيات، كان النقد الأجنبي مسيطراً على التعاملات التجارية مقارنة بالزلوتي بنسبة تصل إلى 3: 1.

(حتى الثمانينيات، كانت السلطات النقدية تصدر أوراقاً مالية رسمية خاصة مقابل الودائع بالدولار، حيث يمكن استخدام تلك السندات "الخاصة" (BONY) في الحصول على كل شيء من السجائر الأمريكية والكاميرات اليابانية، إلى الملابس من أوروبا الغربية، لكن لا يكون لها قيمة خارج بولندا).

دخلت بيرو الألفية الجديدة و80% من ودائعها المصرفية مقومة بالدولار.

وبينما يمكن اعتبار بولندا وبيرو قصص نجاح لدول تخلصت من الدولرة، لكن المشهد المالي لقطاع التجزئة لديهما يبدو مختلفاً تماماً. حيث أمضت بولندا التسعينيات في إعادة هيكلة إدارة عملتها، وفي النهاية فازت بثقة السكان في الزلوتي، كوسيلة للتبادل ومخزن للقيمة.

لكن التضاريس الجبلية في بيرو جعلت الأمور أكثر تعقيداً، فلا تزال الأوراق المالية المقومة بالدولار (والودائع المصرفية) تستحوذ على جانب كبير من النظام النقدي المزدوج في البلاد، كما لم يتم إحراز تقدم كافٍ على صعيد الشمول المالي، وخاصة في المناطق الريفية.

انتشار الدفع الإلكتروني

9 من كل 10 بالغين بولنديين لديهم حسابات بنكية، مقارنة بما يزيد قليلاً عن نصف سكان بيرو، وتتمتع صناعة الدفع بقدرة تنافسية عالية في بولندا، حيث يتمتع المستهلكون بمجموعة متنوعة من الخيارات غير النقدية لتسوية معاملاتهم، حيث يمكن لجميع مستخدمي الهواتف المحمولة استخدام شبكة "بليك" (BLIK) على نطاق واسع في التجارة الإلكترونية أكثر من البطاقات، وقد عززت الجائحة من استخدام "بليك" لتصبح أساسية وجزءاً لا يتجزأ من تطبيقات البنوك المتعددة، التي تشهد إقبالاً متزايداً في الاعتماد عليها لتسوية المدفوعات الشخصية بدلاً من النقود.

في بيرو، يصعب الوصول إلى الإنترنت في المناطق الريفية، وقد أدى تفشي كوفيد-19 إلى زيادة ادخار العملات بشكل احترازي، ما أدى إلى بلوغ النقد المتداول 10% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 7% في عام 2018.

وفرة الخيارات أمام المستهلكين، يجعل السلطات البولندية لا تحتاج إلى إضافة خيار آخر. حيث كتب مسؤولو السلطة النقدية البولندية في ورقة بحثية ضمن دراسة حديثة لـ"بنك التسويات الدولية" تتعلق بالتوجه نحو العملات الرقمية في الاقتصادات الناشئة: "حتى الآن، لم يتم وضع هدف محدد لإصدار الزلوتي الرقمي".

في بيرو، لم يكتمل بعد التعامل باستخدام قنوات غير نقدية، ورغم نمو الاعتماد على المدفوعات الرقمية، لكن معظم التحويلات تتم في حلقات مغلقة بين عملاء تابعين لنفس الكيان المالي.

لم تتخذ بيرو بعد قراراً بشأن إصدار عملات رقمية، لكنها لا تستبعد ذلك. وقد كتب مسؤولو البنك المركزي في دراسة بنك التسويات الدولية: "نتوقع في المدى المتوسط تحسن بعض طرق تسوية المعاملات من خلال عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي لاستخدامها محلياً".

على سبيل المثال، إذا تمكن أصحاب المتاجر الصغيرة التي يبلغ عددها نحو نصف مليون متجر من تلقي وسداد المدفوعات الخاصة بها رقمياً، سوف يوفر ذلك على الموردين تكاليف التحصيل، ولن تتطلب التحويلات النقدية المشروطة، ومدفوعات المعاشات التقاعدية للحكومة، وكذلك رسوم الخدمة التي يدفعها الأشخاص لمؤسسات الدولة، زيارة باهظة الثمن لفرع البنك، كما ستتراجع مخاطر السرقة المرتبطة بتبادل النقود الورقية في المناطق الريفية.

في حالة الحفاظ على عدم الكشف عن هوية من يدفع النقود، قد يفضل الناس التعامل باستخدام العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، ولن تكون هناك طوابير طويلة لشراء بطاقات مسبقة الدفع لمشغلين مختلفين، فإذا كان 80% من سكان ليما يسافرون بالحافلة، سيمكنهم وقتها دفع تكاليف الانتقال باستخدام تلك العملات الرقمية، كما سيتمكن المهاجرون من الريف للعمل في العاصمة من تحويل أموال إلى أوطانهم بتكلفة أقل.

قبل أن تلزم الأسواق الناشئة نفسها بالعملات الرقمية، يتعين عليها الإجابة على سؤال، ما إذا كانت أقرب إلى بولندا أم إلى بيرو، وإذا كان القطاع الخاص لديها يستطيع تقديم حلول مدفوعات عالية الجودة وقابلة للاستخدام بسعر معقول للجميع أم لا، ووقتها تحتاج البنوك المركزية إلى التدخل مبكراً للتمسك بسيادة العملة، وتوسيع الشمول المالي، وخلاف ذلك، سيتعين عليهم وقتها تحمل الانتظار.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك