كانت بريطانيا تستعد لأكبر أزمة في مستوى المعيشة منذ عقود حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا، والآن يهدد تأثير الحرب بتعميق الأزمة بالنسبة لأفقر الأسر، وبدفع الملايين من الناس إلى مشكلات مالية.
تسبب الارتفاع الحاد لأسعار النفط في صعود أسعار البنزين والديزل إلى مستوى قياسي، ويحذر الاقتصاديون من أن المزيد من ضغوط الأسعار في المواد الغذائية والطاقة قد يعني تجاوز التضخم 10% في وقت لاحق من العام الجاري.
في ظل ارتفاع أسعار الطاقة المحلية والضرائب بالفعل الشهر المقبل، والتقلّب الحاد في أسواق السلع، يتزايد الضغط على وزير الخزانة ريشي سوناك لتخفيف الألم، عندما يكشف عن الموازنة المصغّرة في الربيع في 23 مارس.
قبل ذلك، يتوقع كثيرون أن يعلن بنك إنجلترا عن رفع للفائدة للمرة الثالثة على التوالي، عندما يجتمع الخميس، وتتوقع "بلومبرغ إيكونوميكس" دعماً بالإجماع لرفع قدره 25 نقطة أساس، ما يأخذ أسعار الفائدة إلى 0.75%، في محاولة للسيطرة على ارتفاع الأسعار.
بدون مساعدة من "سوناك"، من المتوقّع أن تكون نسبة الأطفال الذين يعيشون في فقر مدقع أعلى في 2026-2027 مما كانت عليه في بداية العقد، حسبما تحذّر مؤسسة "ريزوليوشن فاونديشن"، وهو أمر قالت المؤسسة إنه "لم يسبق له مثيل في بريطانيا الحديثة".
لكن المشكلات التي يواجهها "سوناك" - ورئيسه، رئيس الوزراء بوريس جونسون - تمتد إلى ما هو أبعد من البريطانيين ذوي الأجور المنخفضة، إذ يعني الآن تسارع التضخم أن الأسر التي نادراً ما تقلق بشأن تكاليف المعيشة ستواجه صعوبات.
متوسطو الدخل، وهم ليسوا أغنياء بما يكفي لتجاهل الأزمة التي تلوح في الأفق، كما أنهم ليسوا فقراء بما يكفي ليكونوا أول من يحظى بالدعم الحكومي، إنهم من يرجحون كفة الفائز في الانتخابات، وهم من أوصلوا حزب العمال بزعامة توني بلير في عام 1997 لسُدة الحكم، وطردوا بقوة خليفته، غوردون براون، في عام 2010، مبشرين بـ 12 عاماً من حكم حزب المحافظين.
وفي ظل عدم انعقاد الانتخابات القادمة حتى أواخر عام 2024، سيتنافس كلا الحزبين الرئيسيين على الناخبين الذين مروا بأزمة في تكلفة المعيشة بعد وباء "كوفيد -19" و"بريكست".
ارتفاع البنزين والغذاء
كان للأزمة الحالية تأثيرٌ فعليٌّ، وبالنظر إلى بنوك الطعام في جميع أنحاء بريطانيا، فقد أصبح المتبرعون محتاجين، وفقاً لسابين غودوين، التي تدير شبكة المساعدات الغذائية المستقلة.
قالت "غودوين": "هناك مجموعة كبيرة من الأشخاص يواجهون خيار تناول الطعام أو التدفئة والذين ربما لم يفكروا في أنهم قد يضطرون لدخول نظام الضمان الاجتماعي غير الكافي الخاص بنا قبل الآن".
في متاجر البقالة الكبيرة، من المرجح أن يواجه البريطانيون أسعار خبز أعلى لأن روسيا وأوكرانيا تشكلان ما يقرب من ثلث الصادرات العالمية من القمح، الذي ارتفع سعره بأكثر من 50%، وتقدر يائيل سيلفين، كبيرة الاقتصاديين في "كيه بي إم جي"، أن هذا يمكن أن يضيف أكثر من نقطة مئوية للتضخم في بريطانيا.
وفي محطات الوقود، صعدت أسعار البنزين بأسرع وتيرة في 13 عاماً تقريباً في الأسبوع المنتهي في 7 مارس، إذ أرسلت الحرب في أوكرانيا أسعار الوقود لمستويات قياسية مرتفعة، وتظهر البيانات الرسمية أن الأسر الأكثر ثراء تميل للإنفاق أكثر على وسائل المواصلات.
في المنازل، تعني قفزات الأسعار في أسواق الجملة للغاز الطبيعي والكهرباء أن الزيادة بنسبة 54% في سقف أسعار الطاقة الذي يحدّده المنظم الرسمي للطاقة "أوفغيم" (Ofgem)، والمقرر تطبيقها في أبريل، يمكن أن تليها زيادة حادة أخرى في أكتوبر.
وتحذّر المؤسسة الخيرية "ناشونال إنرجي أكشن" (NEA) من أن ذلك سيضع ضغوطاً غير مسبوقة على قدرة البريطانيين على دفع ثمن التدفئة، وقال بيتر سميث، مدير السياسة والدعاية للمؤسسة: "قد يدفع ذلك الأسر إلى تحمّل ديون ضخمة أو حتى فصل نفسهم عن الشبكة".
وسلّط أحدث استطلاع رأي حول بريطانيا، أجرته "بلومبرغ" بين 4 و10 مارس، الضوء على هذه الضغوط، وخفّض فيه الاقتصاديون توقّعاتهم للنمو لبقية عام 2022.
فيما يتعلق بالتضخم، قال كبير الاقتصاديين البريطانيين في "بلومبرغ إيكونوميكس"، دان هانسون، إن نمو الأسعار قد يصل إلى 10% في أكتوبر، وفي ظل صعوبة السيطرة على التضخم قرب المستوى المستهدف عند 2%، يرى الاقتصاديون أن بنك إنجلترا سيُقدم على ثلاث زيادات أخرى قدر كل واحدة 25 نقطة أساس العام الجاري، أما الأسواق فهي أكثر تشدّداً، إذ تُسعّر وصول الفائدة إلى 2% بحلول نهاية العام.
الضرائب ترتفع
علاوة على النمو المتزايد في الأسعار، سيعاني أصحاب الدخول المتوسطة والعالية أيضاً من ارتفاع وشيك في معدل التأمين الوطني، أي ضريبة الرواتب.
لكن من المتوقّع أن يخفّ العبء على أفقر الناس، لأن عتبة الضريبة آخذة في الارتفاع، لكن الأشخاص الذين يتقاضون أكثر من 15 ألف جنيه إسترليني (20 ألف دولار) - أي أقل بكثير من متوسط الراتب السنوي البالغ 25 ألف جنيه إسترليني - سيواجهون خصومات أعلى.
قال جوليان جيسوب، الزميل في معهد الشؤون الاقتصادية، وهو مؤسسة أبحاث تركز على السوق الحرة، إن: "التأثير الصافي هو أن الأسر ذات الدخل المتوسط ستكون الأكثر تضرراً في الأشهر المقبلة"، خاصة إذا كان وجه سوناك أي دعم إضافي لأصحاب الرواتب الأقل فقط.
وأشار "جيسوب" إلى أن أصحاب الدخل المنخفض سيستفيدون أكثر من تخفيض مقرر في نوفمبر في المعدل الذي تخفض عنده الإعانات مع زيادة الدخل من العمل، بالإضافة إلى الارتفاع المخطط له في أبريل في أجر المعيشة الوطني.
اقرأ أيضاً: صندوق النقد يتوقع نمو بريطانيا بأسرع وتيرة بين الاقتصادات السبعة الكبرى
قال بول جونسون، مدير معهد الدراسات المالية الأسبوع الماضي، إنه دون اتخاذ إجراء من جانب "سوناك"، "سيعاني الكثير من ذوي الدخول المتوسطة من أكبر ضرر لمستويات معيشتهم منذ الأزمة المالية على الأقل".
تمتلك الأسر الأكثر ثراء طرقاً أخرى لتخفيف تأثير الضربة، وتمكن العمال ذوي الدخول المرتفعة من الادخار أكثر من غيرهم بكثير خلال الوباء، وأظهر استطلاع أجرته "يوغوف" (YouGov)، وحللته مؤسسة "ريزوليوشن فاونديشين"، أن 47% من أصحاب الدخول الأعلى زادوا مدخراتهم من فبراير 2020 إلى مايو 2021، مقارنة بـ 12% فقط من أصحاب الدخول الأقل.
ومع ذلك، تضغط بالفعل أسعار الفائدة المتزايدة على ملاك المنازل البريطانيين والمقترضين، ومن المرجح أن تكون الأسر الأكثر ثراء مثقلة بالديون.
يشير تحليل أجرته "أكسفورد إيكونوميكس" و"هارغريفيس لانسداون" (Hargreaves Lansdown) إلى أن الخمس الأغنى من السكان معرضون أكثر لفائدة متغيرة، ما يعني أنهم سيعانون معاناة ضعف الخمس الأفقر لسداد ديونهم.
واستنادا على ذلك، فإن اندفاع "سوناك" لإصلاح المركز المالي لبريطانيا - المعلن عنه في أكتوبر مع التركيز على الحياة بعد الوباء - "غير ضروري"، وفقاً لفابريس مونتاني، كبير الاقتصاديين في بريطانيا في "باركليز"، موضحا أن هذا صحيح بشكل خاص في ظل تجاوز التضخم التوقعات لأربعة أشهر متتالية، وابتلاعه لنمو الأجور.
وقال إن: "الضغوط المالية العام الجاري أتثبت أنها غير مستدامة وتميل إلى الضغط على الشريحة المتوسطة.. وتستطيع الحكومة تحمل الإنفاق أكثر قليلا".
وفي ظل انشغال "جونسون" بأوكرانيا، فإن أي استجابة مالية تقع على عاتق "سوناك"، وسيؤثر قراره على ملايين البريطانيين عبر تقسيمات الدخل الصارخة في بريطانيا.