أصابت مجموعة العقوبات الأولى التي فرضها الرئيس الأمريكي جو بايدن على روسيا جراء تحركاتها على الأراضي الأوكرانية المتنازع عليها، الأسواق بحالة من التذمر وسرعان ما تلقت انتقادات على أساس أنَّها محدودة النطاق.
وعوضاً عن فرض حزمة شاملة تؤدي إلى حالة شلل في البنوك الروسية الكبرى، أو فصل معاملاتها المالية عن الاقتصاد العالمي، أو تستهدف تحديداً شخص الرئيس فلاديمير بوتين؛ اتفقت الولايات المتحدة وحلفاؤها على "الشريحة الأولى" المتواضعة من العقوبات. وجاء رد فعل الأسواق مقللاً من شأنها.
استهدفت العقوبات بنكين روسيين؛ هما: بنك "في إي بي" (VEB.RF)، وبنك "برومسفياز" علاوة على ثلاثة أعضاء من طبقة النخبة الروسية المرتبطين بعلاقات متينة مع الكرملين الروسي. طالبت العقوبات أيضاً بتجميد المشتريات المستقبلية للديون السيادية الروسية.
برغم ذلك؛ فإنَّ العقوبات ترقى بصعوبة إلى مستوى إجراءات سابقة تحطم وتشل الاقتصاد أعلنت عنها الولايات المتحدة وشركاؤها منذ مدة طويلة في حال اجتياح القوات الروسية للحدود.
أمضى مسؤولون من البيت الأبيض فترة بعد الظهيرة أمس الثلاثاء في محاولة الدفاع عن الأخذ بنهج محسوب، فقد دارت الأسئلة حول ما إذا كان الرد من جانبهم سيكون كافياً لإثناء الكرملين عن شن هجوم أكبر.
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على روسيا تستهدف البنوك والديون السيادية
نفت موسكو أنَّها تعتزم غزو أوكرانيا. وقال بوتين، إنَّه لا يعتزم في الوقت الحالي إرسال قوات عسكرية – سماها بـ"قوات حفظ السلام" - إلى المناطق الانفصالية الواقعة في شرق أوكرانيا، برغم أنَّ المعاهدات التي وقَّعها مع القادة الانفصاليين تتيح فعل ذلك، وبناء قواعد روسية.
قال بوتين، إنَّه من الممكن تفادي الأزمة إذا قبلت أوكرانيا المطالب التي تتضمن الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم والتخلي عن مساعيها للانضمام إلى حلف الناتو.
صعدت أسعار العقود الآجلة للأسهم الأمريكية والأسهم الآسيوية يوم الأربعاء، وهو ما يدلل على أنَّ المستثمرين يعبترون أيضاً أنَّ مجموعة العقوبات الأولى محدودة التأثير.
كما تراجع الطلب على الأصول التي تعتبر ملاذات أمان تقليدية مثل الذهب. واستقر سعر خام برنت- الذي بات قريباً من 100 دولار للبرميل في اليوم السابق بشكل جزئي جراء مخاوف حدوث عطل محتمل للإمدادات الروسية- عند 97 دولاراً للبرميل.
خط أنابيب الغاز الروسي المثير للجدل ميت.. على الأقل حالياً
جاء التحرك الأشد خطورة من ألمانيا، التي أعلنت أنَّها أوقفت عملية التصديق على مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" لتجعل المشروع الذي تبلغ قيمته 11 مليار دولار عرضة للخطر، والذي كان سيؤدي إلى تقوية قبضة روسيا على قطاع الطاقة في أوروبا.
وأعلن أكبر مسؤول دبلوماسي أمريكي أنتوني بلينكين في وقت لاحق إلغاء اجتماع هذا الأسبوع مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
خطر جيوسياسي
قال داليب سينغ، نائب مستشار الأمن القومي للاقتصاد الدولي للصحفيين في واشنطن: "كانت هذه بداية لعملية غزو، وهذه بداية لردنا عليها".
من جانب بايدن؛ فإنَّ اتباع ذلك النهج ينطوي على خطر جيوسياسي.
كثيراً ما استغل بوتين الانقسام، وانعدام التنظيم في الغرب، حينما كان يحاول الاستيلاء على الأراضي الأكثر قرباً من الوطن. من خلال الفحص الدقيق؛ قد لا تظهر هذه التدابير الغربية قوية كما تبدو للوهلة الأولى.
قنوات أوروبا الرياضية تبحث موقف حجب إعلانات "غازبروم" في المباريات
كان واحداً من البنوك المستهدفة من قبل الولايات المتحدة خاضعاً لقيود مفروضة عليه منذ عام 2014، وفرضت الولايات المتحدة فعلياً عمليات حظر محدودة على شراء الديون السيادية الروسية المطروحة منذ عام 2019.
عوَّضت الأسهم الأوروبية خسائرها، فقد تعرّف المستثمرون على تفاصيل العقوبات الموقَّعة، في حين أنَّ العقود المستقبلية للنفط الخام والروبل قد محت تراجعاتها.
وصف بريان أوتول، وهو زميل رفيع المستوى في مؤسسة "المجلس الأطلسي" وعمل سابقاً في وحدة فرض العقوبات بوزارة الخزانة الأمريكية، عقوبات بايدن بأنَّها "تصاعدية".
قال: "يتعين أن ننتظر لنشاهد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستحدث التأثير الذي وعدت به في مواجهة عدوان متزايد، وطريقة تعريف ذلك". وأضاف: "أنا أخشى أنَّ بوتين في الوقت الراهن يظن أنَّ الغرب لا يمتلك الشجاعة لمواصلة ذلك النهج".
التعرض للنقد من الحزبين
يتعرض بايدن أيضاً لانتقادات متصاعدة من المشرِّعين المتشددين على الجانبين. أمضى المشرِّعون الجمهوريون الذين شجعوه على فرض عقوبات قبل شن أي هجوم من قبل بوتين، يوم الثلاثاء، في توجيه الانتقاد لتحركاته، لأنَّها تدابير غير مؤثرة، ووصف السيناتور ليندسي غراهام التطورات بأنَّها "تكرار لفترة الثلاثينيات من القرن الماضي".
بيد أنَّ المشرِّع الجمهوري عن ساوث كارولينا لم يكن الوحيد الذي أثار طيف أسلوب التسوية الذي يعود لحقبة الحرب العالمية الثانية. قال الحلفاء مثل السيناتور بوب مينينديز، النائب الديمقراطي عن ولاية نيو جيرسي الذي يترأس لجنة العلاقات الخارجية، إنَّ الولايات المتحدة يتعين عليها أن تفرض "قدراً هائلاً" من العقوبات حالياً لردع روسيا من الإقدام على مزيد من العدوان.
هل ستتخلى ألمانيا عن الغاز الروسي؟
قال مينينديز في مقابلة مع شبكة "سي إن إن": "لا أعلم ما الذي يتوجب علينا انتظاره". تابع:"ما لا يمكننا القبول به هنا هو تكرار لحظة ميونخ أخرى"، في إشارة إلى اتفاقية تعود لسنة 1938 سمحت لألمانيا النازية بالاستيلاء على جزء من دولة تشيكوسلوفاكيا حينئذ.
عرَّض هذا الرد بايدن لانتقادات حول أنَّ البيت الأبيض طرح مرة أخرى وعوداً بالغ فيها، ولم يفِ بها على المسرح العالمي. في وقت سابق من الشهر الجاري؛ أكد مساعدوه علنية أنَّهم سيوقِّعون عقوبات فورية، مما سينجم عنه تكاليف مؤثرة للاقتصاد الروسي.
قال بيتر هاريل، معاون في البيت الأبيض، أمام مؤتمر عقد في 2 فبراير الجاري حول العقوبات: "لن نتبنى السلم التصاعدي التقليدي الذي استخدمناه في الماضي، إذ نشرع في توقيع عقوبات تستهدف المسؤولين الحكوميين، ثم ننتقل إلى الكيانات المملوكة للدولة، ثم القطاع الاستراتيجي".
"عوضاً عن ذلك؛ نحن نتوقَّع أن يجري تبني النهج الذي يقوم على البدء من مستوى مرتفع، والبقاء على مستوى مرتفع"، بحسب ما صرّح به هاريل.
عقوبات متعجلة
برغم ذلك؛ بدت حزمة العقوبات التي جرى الإعلان عنها يوم الثلاثاء وكأنَّها نتيجة جهد متعجل عقب اعتراف بوتين بالأراضي الانفصالية في منطقة دونباس بأوكرانيا، في حين تفادى، على الأقل حالياً، الإقدام على عملية غزو واسعة النطاق للدولة الجارة له.
جاء ذلك التحرك في وقت كانت الولايات المتحدة تقيم فيه أيضاً مناورة سياسة على مدار إحدى عشرة ساعة قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أجل التوسط لعقد قمة بين بايدن وبوتين لتفادي اندلاع الحرب.
في حين أشار كل من الكرملين والبيت الأبيض إلى أنَّهما من الممكن نظرياً التكهن بانعقاد هذه المحادثة؛ فقد انهار الاحتمال بالسرعة نفسها التي برز بها. رسمياً؛ استبعد البيت الأبيض هذا الاحتمال في مساء الثلاثاء.
أدى كلا التطورين إلى تعقيد الموقف بالنسبة للمخابرات الأمريكية التي يقول المسؤولون فيها، إنَّهم يظهران أنَّ الروس يتأهبون لهجوم واسع النطاق من الممكن أن يتضمن الاستيلاء على كييف عاصمة أوكرانيا.
كان المسؤولون الأمريكيون على قناعة تامة بأنَّه من الممكن أن يكون هناك توغل واسع في مرحلة التجهيز لدرجة أنَّ الموظفين الدبلوماسيين انسحبوا عبر الحدود إلى بولندا ليلة يوم الإثنين الماضي.
سراً، قال مسؤولو الإدارة، إنَّهم ما زالوا يظنون أنَّ بوتين يتأهب لهجوم من هذا النوع، "إذ إنَّ أولئك الذين يتكهنون بحدوث رد فعل أشد عدوانية على حزمة العقوبات، ربما لا ينتظرون لمدة زمنية طويلة".
قال شخص على دراية بطريقة تفكير الإدارة الأمريكية، إنَّ الولايات المتحدة ما زالت تتوقَّع حدوث تحركات روسية أخرى خلال الفترة التي تترواح بين 24 و48 ساعة مقبلة، وهو ما قد يسفر عن توقيع المزيد من العقوبات.
أثناء خطابه الذي أعلن فيه عن فرض العقوبات؛ قال بايدن، إنَّه يبدو أنَّ بوتين كان يمهد الطريق للقوات الروسية لكي تنتقل إلى داخل المناطق التي تخضع حالياً لإدارة الحكومة الأوكرانية، وهو إجراء سيدفع إلى فرض عقوبات إضافية؛ بحسب شخص ثانٍ على اطلاع على عملية تخطيط إدارة الرئيس الأمريكي.
كما احتج المسؤولون بأنَّ المنتقدين قد فسروا طريقة عمل العقوبات بشكل خاطئ، إذ قالوا، إنَّ التأثير سيزداد تصاعدياً، بيد أنَّه سيكون بطريقة ملموسة مع مرور الزمن.
برغم ذلك؛ شدد البيت الأبيض علنية على أنَّ حزمة العقوبات المقدمة كانت ذات أهمية فعلاً، وجرى تنفيذها بطريقة أكثر سرعة وأكثر جرأة من الرد الذي جاء عقب ضم بوتين شبه جزيرة القرم خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
"قدر محدود من الألم"
قالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جين ساكي يوم الثلاثاء: "قام الرئيس بايدن بحشد العالم، وحشد أوروبا من أجل التصدي لتحركات الرئيس بوتين".
اتخذت سينغ خطوة استثنائية تتمثل في توضيح بعض التدابير الفردية المحددة الجاهزة في حال قامت روسيا بتحرك إضافي، قائلة إنَّ الإدارة الأمريكية كانت "متأهبة للضغط على زر لاتخاذ موقف ضد أكبر مؤسستين ماليتين روسيتين، تمتلكان معاً أصولاً بقيمة تصل إلى 750 مليار دولار".
تتضمن التدابير التي يجهزها البيت الأبيض الإجراءات التي من شأنها أن تؤثر في بنك "سبيربنك" (Sberbank)، وبنك "في تي بي" إذا استمرت عملية الغزو، علاوة على إجراءات خاصة بمراقبة الصادرات بالتنسيق مع عدد كبير من الحلفاء والشركاء.
قالت سينغ: "لا ترتكب أي خطأ؛ فهذا قدر محدود من الألم الذي من الممكن أن نُحدثه".