بدأ عدد متنام من صناع السياسة النقدية لدى البنك المركزي الأوروبي في فقدان الثقة في توقعات المؤسسة بشأن معدلات التضخم الراهنة، وهو ما يعزز توجههم لرفع أسعار الفائدة في وقت لاحق من السنة الحالية، وفق مسؤولين مطلعين على الأمر.
وفي حين يدافع كبير الاقتصاديين فيليب لين بشدة عن توقعات البنك المركزي الأوروبي ويصر على أن صياغة النموذج بشأنها من قبل فريق عمله تتسم بالموثوقية وأنها رفيعة المستوى، يحذر محافظون عديدون من الاعتماد المفرط عليها، وسط بيئة سريعة التغير والاضطراب، حيث أسفر صعود الأسعار في الآونة الأخيرة عن حدوث حالة من الارتباك للتوقعات بشكل متواصل.
بدت الشكوك من ذلك النوع المتعلقة بعملية التوقع خلال محادثات متعددة مع المسؤولين إزاء المناقشات التي تسببت في الانعطاف نحو السياسية النقدية المتشددة بطريقة غير متوقعة خلال الأسبوع الماضي، والتي أزاحت الستار عنها رئيسة البنك كريستين لاغارد. تحدث المسؤولون بشرط عدم الكشف عن هوياتهم لأن مداولات البنك المركزي الأوروبي ما تزال غير متاحة للعموم.
اقرأ أيضاً: توجهات البنوك المركزية العالمية ترسم نهايةً لحقبة "الأموال السهلة"
استمر اليورو في تحقيق المكاسب حيث صعد 0.3% ليصل إلى نحو 1.1445 دولار. بينما خففت السندات الألمانية (بوند) صعودها في العقود المستقبلية، في تعاملات ضعيفة بعد جلسة التداول الأوروبية.
مهد محور لاغارد، الذي جرى تبنيه على خلفية التشديد في السياسة النقدية على مستوى العالم بطريقة مكثفة، الطريق لصدور قرار بتطبيق سياسة نقدية أكثر تشدداً خلال شهر مارس المقبل، عندما يبت صناع السياسة في أمر سرعة وقف برنامج شراء السندات.
من المتوقع أن تحتل التوقعات الحديثة موقعاً بارزاً خلال هذا الاجتماع، في ظل بطلان مجموعة التوقعات الأخيرة من قبل البنك المركزي الأوروبي الصادرة في 16 ديسمبر الماضي عقب ارتفاع آخر في تكلفة الطاقة وصدور بيانات للتضخم بلغت في مرتين مستويات قياسية منذ ذلك الوقت، بما في ذلك صعود بلغت نسبته 5.1% خلال شهر يناير الماضي. كانت التوقعات الأخيرة للتضخم تشير إلى متوسط عام نسبته 3.2% للسنة الحالية.
قالت لاغارد يوم الإثنين إن تلك التوقعات ستساعد مجلس المحافظين على "وضع تقييم أفضل لتأثيرات" بيانات التضخم في الوقت الراهن على التوقعات في الأجل المتوسط.
قد تبرز التوقعات حول حجم الصعود المحتمل لمسار أسعار المستهلكين يوم الخميس عندما تصدر المفوضية الأوروبية توقعات حديثة.
يعد لين بصفته كبير خبراء الاقتصاد عضواً في المجلس التنفيذي والمسؤول عن إعداد وعرض توقعات البنك المركزي الأوروبي. ويشمل دوره أيضاً اقتراح الحلول (أو مسارات العمل) وقت قرارات مجلس المحافظين.
يقول المسؤولون إن الشكوك المحيطة بقدرات صياغة نموذج العمل لدى البنك المركزي الأوروبي تمثل خطاً واحداً لمهاجمة تبنيه وجهة نظر سياسة نقدية متساهلة بعض الشيء والقائلة بأن صناع السياسة يتعين عليهم عدم إغفال التضخم الذي لا يبدو قريباً من الخروج عن السيطرة، لافتين إلى أن موقفه بات يحظى بتأثير أقل شيئاً فشيئاً بين أقرانه.
اقرأ أيضاً: التضخم يباغت "المركزي الأوروبي" ويسجل مستوى قياسياً في يناير
عوضاً عن ذلك، ينوه المسؤولون إلى وجود حالة متصاعدة من القلق بين أعضاء مجلس المحافظين، بما يتخطى المتشددين المعتادين على غرار الألمان والهولنديين، من أن الأسعار لن تكون تحت المستوى المستهدف عند 2% خلال السنة القادمة الوارد في توقعات الفريق الحالية، وأن التكهنات من ذلك النوع ربما تثبت أنها أداة لا تتمتع بموثوقية وسط بيئة تتغير بطريقة سريعة.
رأي "بلومبرغ إيكونوميكس"
يقول جيمي راش ومايفا كوزين: "تتمثل الحالة الأساسية بالنسبة لنا في أن البنك المركزي الأوروبي يلمح إلى أن الارتفاع في سعر الفائدة الأساسية سيأتي مع حلول نهاية السنة الجارية، وربما يدعمها وجود خطط للحد من برنامج مشتريات الأصول بطريقة أسرع إلى حد ما. يوجد خطر، رغم أنه محدود، أن المعتدلين في مجلس المحافظين يرضخون لضغوط من المتشددين عقب مراجعة بيانات التضخم وطريقة تسعير الأسواق المالية لدورات الصعود الجريئة في أسعار الفائدة الأساسية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة".
احتساب العوامل الجيوسياسية
يؤكد لين على أن المسألة تحتاج إلى طرح نموذج للتغلب على نموذج آخر، في إشارة إلى أن أياً من المنتقدين لا يطرحون بدائل على نحو بناء. كما أنه يعترف أيضاً بحدوث تطور في المشهد الاقتصادي، بينما تتراجع معدلات البطالة بطريقة أسرع عما كان متوقعاً، كما تشهد توقعات التضخم حالة من الاستقرار.
ما زال كبير خبراء الاقتصاد الذي درس في جامعة هارفارد، والذي يجري النظر إليه من قبل العديد من المراقبين على أنه المتزعم لاستمرار السياسة النقدية التي تهتم بالتحفيز المالي التي وضعها الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي، يظن أن البنك سيكون في حاجة إلى وقت أكثر لصياغة قرار متعلق بالسياسة النقدية، في ظل عوامل تتعين مراقبتها ومن بينها الصراع المحتمل في أوكرانيا وما له من تأثير على أسعار الطاقة.
ستفضل وصفته العلاجية للسياسة النقدية إعادة الأمور إلى طبيعتها بطريقة متدرجة، عوضاً عن عمليات رفع حادة في أسعار الفائدة التي يتوقعها في الوقت الحالي خبراء الاقتصاد في بنوك من بينها مجموعة "غولدمان ساكس"، والتي يتوقعها أيضاً مستثمرون.
يعد ذلك هو الرأي الذي أعلنه محافظ بنك إسبانيا المركزي بابلو هيرنانديز دي كوس في يوم الأربعاء، بينما قال محافظ بنك فرنسا فرانسوا فيليروي دي غالو في يوم الثلاثاء إن الأسواق المالية ربما تكون قد أفرطت في الاستجابة لمحور لاغارد، مشيراً إلى أنهم يرجحون قدراً كبيراً من تشديد السياسة النقدية.
يظهر آخرون وهم يتمتعون بقدر أكبر من التفاؤل حول وجهات نظر المستثمرين. صرح رئيس البنك المركزي الألماني يواكيم ناجل لصحيفة "تسايت" أن رفع سعر الفائدة الأساسي يعتبر مسألة ممكنة خلال السنة الجارية، بينما يتوقع رئيس البنك المركزي الهولندي كلاس نوت رفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس خلال الربع الأخير من السنة الحالية.
تعديل تدريجي
في يوم الاثنين، تحدثت لاغارد نفسها عن تعديل "تدريجي". على صعيد التكهنات، أكدت خلال الأسبوع الماضي أنها تمتلك "ثقة كاملة" في وضع فريق العمل "فرضيات راشدة وصحيحة وعقلانية". في هذه الأثناء، شددت على أن صناع السياسات غير متقيدين بالتوقعات وأنه "يوجد عنصر من عناصر الوصول للحكم الاجتهادي" في اتخاذ القرارات الخاصة بهم.
رددت عضو المجلس التنفيذي في البنك المركزي الأوروبي إيزابيل شنابل وجهة نظر لاغارد في منشور لها خلال مناقشة جرت على موقع تويتر في يوم الأربعاء. وقالت: "تحيط حالة من عدم اليقين بالتوقعات بصفة مستمرة. بيد أنه جراء تفشي وباء فيروس كورونا والتغيرات الهيكلية، فإن حالة عدم اليقين المتعلقة بالتوقعات الخاصة بالتضخم عالية بطريقة استثنائية. في استطاعتك أن تثق في أننا سنأخذ في الاعتبار حالة عدم اليقين لدى عملية اتخاذ القرار".
أصدر البنك المركزي الأوروبي بياناً من خلال متحدثه الرسمي في استجابة لمخاوف أعضاء مجلس المحافظين حول عملية التوقع المشار إليها في هذه القصة.
"يجري إصدار التوقعات الخاصة بالاقتصاد الكلي للبنك المركزي الأوروبي/منظومة اليورو والتي تعود للبنك المركزي الأوروبي وفريق عمل منظومة اليورو. يقدم ذلك مدخلات أساسية لاجتماعات مجلس المحافظين، بينما يقيم صناع القرار توقعات الاقتصاد والتضخم وصياغة آرائهم الخاصة بهم المتعلقة بالمخاطر التي تتهدد نواتج التضخم والنمو. على غرار أي عملية توقع، يعتمد كلاهما على النموذج والحساسية تجاه البيانات الصادرة. من المقرر أن تصل توقعات فريق العمل الحديثة لمجلس المحافظين خلال اجتماع 10 مارس المقبل، والتي ستشمل كافة المعلومات التي ستصبح متاحة في أعقاب اجتماع شهر ديسمبر الماضي".