لم يكن لدى صندوق الثروة السيادي الأكثر سعياً للاستحواذات في العالم سيولة بهذا القدر منذ تأسيسه قبل 40 عاماً، كما لم يواجه تحديات بهذا الحجم لإدارتها.
اعتمد نمو أصول "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" (GIC) على ركيزتين استثماريتين أساسيتين وهما: الصين والسندات، واللتين تتعرضان لمزيد من الضغوط في الوقت الحالي بسبب ارتفاع وتيرة التضخم والتوترات الجيوسياسية والحملات التنظيمية. كما يتزامن ذلك مع حاجة ميزانية سنغافورة لمزيد من الإيرادات، ما يزيد الضغوط على الصندوق لتحقيق عوائد قوية، ما يدفعه إلى واحد من أكبر التحولات في إدارة أصوله على مر التاريخ بهدف تحقيق تلك العوائد.
قال ليم تشاو كيات الرئيس التنفيذي، والذي عمل في "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" لمدة 28 عاماً في مقابلة نادرة: "نتوقع مواجهة تحديات كبيرة ومتنوعة، ولا نملك العديد من السوابق التاريخية. فلأول مرة نواجه مشكلة ارتفاع التضخم الخطيرة".
العملاق
تأسس "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" عام 1981 للمساعدة في إدارة الفوائض المالية والاحتياطات للدولة الناشئة التي تأسست قبل 16 عاماً فقط من تأسيس الصندوق. وبدأ العمل بعدد قليل من الموظفين المحليين، وتمت استعارة معدات مكتبية و3 مديري صناديق استثمار من الشركات الأمريكية، لينجح الصندوق على مر السنوات في أن يصبح في صمت عملاقاً في مجال التمويل العالمي.
يتمتع "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" بثروة ضخمة وعوائد تعكس حصافة الإدارة، وإن لم يتم تحديدها نتيجة طبيعة المعايير السرية التي تتبعها صناديق الثروة السيادية في الإفصاح عن المعلومات، حيث لا يفصح الصندوق عن العوائد السنوية، لكن تقديرات مزودي البيانات في ذلك الصدد تشير لإجمالي أصول بقيمة 744 مليار دولار. وقد أقر "برلمان سنغافورة" قواعد جديدة تسمح بزيادة تلك الأصول إلى نحو 900 مليار دولار، ما قد يجعله ثالث أكبر صندوق من نوعه في العالم بعد النرويج والصين.
اقتصاد سنغافورة ينتعش في 2021 بأسرع وتيرة منذ 2010
تزامن تضخم حجم "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" مع زيادة التحديات للحفاظ على العوائد واستكشاف أصول جديدة، بالتزامن مع مواصلة تمويل ميزانية حكومة سنغافورة. حيث تمثل عوائد الاستثمار من "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" و"البنك المركزي السنغافوري" وشركة الاستثمار الحكومية "تيماسيك هولدينغ" أكبر مساهم فردي في ميزانية الدولة منذ عام 2018.
وبينما توفر الصناديق السيادية حول العالم تلك الفوائض لاستخدامها أثناء انحسار الدخل يمثل "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" جزءاً من حكومة المدينة التي تعاني من شيخوخة السكان وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية ومعدلات الضرائب المنخفضة والتي ترهق الموارد المالية للدولة.
على مدى العقدين الماضيين، حقق "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" مكاسب سنوية اسمية بلغت 6.8% في المتوسط بالتساوي مع العديد من الصناديق السيادية المنافسة بحسب شركة الأبحاث "غلوبال إس دابليو إف" (Global SWF) التي أكدت أن العوائد طويلة الأجل للصندوق قد ارتفعت بشكل كبير بلغت 38% في السنة المالية التي انتهت في مارس الماضي.
قال ليم سيونغ غوان الرئيس السابق للمجموعة، والذي ساهم في وضع استراتيجية الصندوق الحالية: "أبرز أهداف صندوق الثروة السيادي السنغافوري الحفاظ على عوائد استثمار ثابتة".
الرهان
كانت الصين إحدى الركائز الأساسية لنمو أصول "صندوق الثروة السيادي السنغافوري". حيث اتخذ الصندوق قراراً مبكراً في مطلع الثمانينيات بالاستثمار في الصين في الوقت الذي تراجع فيه الكثير حول العالم، حيث توقع رئيس الوزراء السابق وأول رئيس للصندوق لي كوان يو وقتها ازدهار الصين نتيجة انفتاح اقتصادها.
قال نغ كوك سونغ الذي استقال من منصب كبير مسؤولي الاستثمار بالصندوق عام 2013: "كان هو من نبهنا إلى حد ما، وقال إن صعود الصين سيستمر بلا رجعة".
كان الدخول لأسواق الصين الناشئة تحدياً صعباً. حيث قام "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" بتقديم الدعم لكل شيء هناك من تجمعات المباني المكتبية، والبنوك الزراعية في شنغهاي، وصولاً إلى صانعي المراحيض والغسالات. ونجح الصندوق في تحويل محفظة استثماراته التي بدأت كصندوق يستثمر في الغرب فقط، إلى محفظة متنوعة تساهم آسيا بوزن نسبي يعادل 34% من حيازاتها الآن، متساوية مع نفس الوزن النسبي للولايات المتحدة.
تحديات
حققت الرهانات على عمالقة التكنولوجيا مثل مجموعة "علي بابا" و"شاومي"، والاستثمار فيها قبل طروحاتها العامة الأولية، مكاسب ضخمة واستثنائية على الرغم من تعرض تلك المكاسب في الوقت الحالي لتهديدات وسط تصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة.
قال ليم البالغ من العمر 51 عاماً من مكتبه في الطابق 37 في مقر الصندوق: "بالتأكيد يمثل احتمال حدوث ذلك الانقسام مصدر قلق، وسوف يؤثر على المستثمرين العالميين ويجعل الأمر أكثر صعوبة في الحصول على حرية الاختيار بين الاستثمارات".
تتزايد المخاطر أيضاً من داخل الصين نفسها. حيث كان "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" مستثمرًا رئيسيًا في "لوكين كوفي" (Luckin Coffee) ثم باع حصته قبل فضيحة محاسبية أدت إلى انهيار سعر سهم الشركة. كما أقرت سنغافورة العام الماضي تكبد الصندوق و"تيماسيك" خسائر كبيرة عقب شن بكين حملة على قطاع التعليم عبر الإنترنت. كذلك كان الصندوق من بين المستثمرين الأوائل في "آنت غروب" عملاق التكنولوجيا المالية الذي تم إجباره على إلغاء الاكتتاب العام لأسهم المجموعة التي تبلغ قيمتها 35 مليار دولار وسط حملة يتعرض لها القطاع.
التفاؤل بالصين
ما يزال ليم، الذي ترأس "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" لمدة 5 سنوات، متفائلًا بشأن الصين. ويرى أنها مصدر للنمو وتوفر تحوطاً ضد التقلبات الدورية في الأسواق الأخرى. وأن الصندوق قد يشتري مزيداً من السندات السيادية الصينية، كما لم يُصَب بالذعر من تخلف "إيفرغراند" ومطوري العقارات الآخرين عن السداد.
أوضح ليم: "نعتقد أن لدى بنك الصين ميزانية عمومية كافية، كما يتمتع نظامهم بروافع كافية للتأكد من أن الأمور لا تخرج عن السيطرة، وكذلك لديهم إرادة لمواصلة الإصلاحات والانفتاح، ما يعزز النمو في المستقبل".
قد يكون للتضخم تأثير كبير على عوائد "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" خارج الصين. حيث تمثل القيمة الاسمية للسندات والسيولة 39% من المحفظة في مارس، بينما تشكل السندات المرتبطة بالتضخم 6% من المحفظة. ورجح ليم، أن تقل العوائد المستقبلية، ما يلقي بشكوك بشأن استراتيجية توزيع أصول المحفظة بنسبة 60/40 بين الأسهم والسندات، والتي كانت ركيزة أساسية لنمو الصندوق لسنوات.
وصف ليم السندات الاسمية بأنها الأكثر عرضة للتقلبات وقال: "إذا شعرنا أن التضخم سيكون مشكلة مستدامة، سيكون علينا بالطبع البدء في تحويل المحفظة نحو المزيد من الأصول المحمية من التضخم، وسيساعدنا العثور على أسهم شركات لديها قوة تسعيرية"، بجانب السلع.
قوة دافعة
يقول ليو تزو مي رئيس الدخل الثابت والاستدامة في الصندوق، إن معايير الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية تمثل محرك نمو محتمل آخر لـ "صندوق الثروة السيادي السنغافوري". حيث يدير قسم الاستثمار الداخلي الذي تم إنشاؤه في 2020، والمسؤول عن امتثال الاستثمارات لمعايير الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية "مليارات الدولارات". كما تم ابرام صفقات عديدة في السنوات الأخيرة في مجالات مثل الهيدروجين الأزرق والطاقة الشمسية.
يموّل "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" بعض الشركات الملوثة، شرط أن يكون لديها خطة لتصبح أكثر استدامة. وقد أبرم الصندوق في السنوات الأخيرة صفقات عديدة في مجال خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، كما يمتلك الصندوق حصة كبيرة في "تشاينا بتروليويم أند كيميكال".
وعلى عكس "تيماسيك"، لم يحدد "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" هدفًا للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول 2050، وقد أرجع ذلك إلى أن ذلك الهدف سيؤثر على قدرات الصندوق الاستثمارية في دول مثل الصين والهند، والتي وضعت أهدافاً لاحقة.
110 صفقات في عام
وللمساعدة في الحفاظ على العوائد، يتجه الصندوق إلى الاستثمار في الأسهم الخاصة، حيث ضاعف مخصصاته منذ 2013 لتصل إلى نحو 15% من إجمالي المحفظة. تقدر "غلوبال إس دابليو إف" أن "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" استثمر 34.5 مليار دولار في 110 صفقات العام الماضي - الأكثر زخماً على الإطلاق – في الأسهم الخاصة بصدارة قطاعات الخدمات اللوجستية والعقارات، ما جعل الصندوق أكبر مؤسسة حكومية إنفاقاً للعام الرابع على التوالي، متفوقاً على "صندوق خطة المعاشات التقاعدية الكندية" الذي حل بالمرتبة الثانية.
تجمع "غلوبال إس دابليو إف" بيانات صناديق الثروة السيادية العالمية، ومن بينها صناديق التقاعد العامة وتضعها ضمن تصنيفها.
قال إريك ويلمز رئيس الأسهم الخاصة في الأمريكتين: "أتوقع مواصلة البناء على ما تمكنا من القيام به سنوياً، فهو ليس اتجاه لعام واحد أو لثمانية عشر شهراً".
فقدان المرونة
يعد نمو أصول "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" نقطة قوة وضعف في نفس الوقت. حيث يتعين على الصندوق إبرام مزيد من الصفقات، والتي قد يكون من الصعب العثور عليها، للحفاظ على النمو. خاصة أن العديد من المنافسين يتوسعون في الاستثمار أيضاً، ما قد يؤدي لتقليص المخصصات التي يتم رصدها لتلك الصفقات.
قال دييغو لوبيز العضو المنتدب لـ "غلوبال إس دابليو إف": "قد يكون معدل نمو صندوق الثروة السيادي السنغافوري أكثر من اللازم، ما قد يفقده المرونة اللازمة ويثير تساؤلاً حول ما إذا كان من الأفضل تقسيم الوحدات الاستثمارية لمحافظ منفصلة؟"
يمثل تحول "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" إلى الأسهم الخاصة أحد تحديات الصندوق السيادي لبلد لا يتجاوز عدد سكانه 5.5 مليون شخص، ويحتاج لجذب مزيد من المواهب العالمية لاستكشاف الصفقات.
وصل عدد الأجانب أكثر من نحو نصف الموظفين البالغ عددهم 1800 شخص في مارس الماضي، وذلك بارتفاع مقارنة بعدد الأجانب الذي مثل نحو الثلث في عام 2016.
على عكس العديد من البنوك وشركات الأسهم الخاصة، يشتهر "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" بالترشيد ويشبه في ذلك الخدمة العامة. حيث قال العديد من الموظفين الحاليين والسابقين الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، إن الحضور للمكتب في سيارة رياضية يجذب الانتباه غير المرغوب فيه من الزملاء. اعتاد الرئيس السابق لـ"ليم" استقلال مترو الأنفاق للوصول للعمل. ويشير التاريخ الرسمي للصندوق إلى أن الوزير الذي أسس "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" يمثل نموذجاً يُحْتذَى به في سنغافورة في الترشيد، لدرجة أنه كان يغسل ملابسه بنفسه أثناء رحلات العمل.
دفع مكافآت
قالت مصادر مطلعة على الأمر، إن رواتب ومكافآت موظفي "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" تتناسب بشكل عام مع نظرائها من القطاع الخاص، رغم تعقد نظام تقاسم الأرباح.
قال إنغ: "من الأسهل اجتذاب السنغافوريين – واكتشاف مواهب جديدة" وأضاف إنغ: "لكن هنا التحدي، هل تستطيع جذب الأجانب؟"
يرى ليم سيونغ غوان، الذي يقوم بتدريس القيادة وإدارة التغيير في كلية "لي كيوان يو" للسياسة العامة، ضرورة العمل على إجراء تحول جوهري في عقلية المزيد من المحليين.
وأضاف غوان: "نفتقر لرواد الأعمال وعلماء الأبحاث، وعمومًا نفتقر إلى القادة. فالنقص الحقيقي لدينا في الأشخاص المستعدين للمحاولة والفوز أو الخسارة، والأشخاص المتفردة".
يواجه "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" تحدياً بشأن شهرة العلامة التجارية عالمياً. فقد يعلم أي شخص عمل بمجال التمويل الصندوق، ولكن الاسم ليس مألوفًا في الدوائر الأخرى ما يجعل من الصعب إبرام الصفقات في المجالات الناشئة مثل التكنولوجيا الحيوية أو الزراعة.
يحاول الصندوق لمواجهة ذلك، العمل على تعزيز سمعته كشريك مؤسسي موثوق والاستثمار بشكل متزايد في جولات التمويل ودعم الاكتتابات الأولية بدون فرض مطالب كبيرة أو الانضمام لتحركات المستثمرين النشطين.
وقال ليم: "صندوق الثروة السيادي السنغافوري مستثمر طويل الأجل، ومنذ اليوم الأول نؤكد ذلك ونلتزم به".
الاحتفال
هناك طلب كبير للحصول على دعم "صندوق الثروة السيادي السنغافوري"، وتجلّى ذلك في نوفمبر الماضي عندما وقف بعض كبار الممولين عالمياً في طابور طويل يحيطه حراس مسلحون لدخول فندق شانغريلا والاحتفال بذكرى تأسيس الصندوق الأربعين.
تزامن مع عروض الأداء، وعزف فنانون سنغافوريون من ذوي الاحتياجات سيمفونية مع إشادة مديرين من "سيلفر ليك مانجمنت" و"بي إيه جي" و"بنك أوف نيويورك ميلون" بأداء "صندوق الثروة السيادي السنغافوري" بينما كان ينصت إليهم رئيس الوزراء لي هسين لونغ.
قال جون ستودزينسكي نائب رئيس مجلس إدارة شركة "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت": "كل شخص يعرف صندوق الثروة السيادي السنغافوري ويترقب أقرب فرصة للتواصل ومناقشة الأفكار الشيقة، فقد أصبح حقاً نموذجاً يحتذى به بين الصناديق السيادية".