في البداية، سيصبح الوضع أكثر سوءاً، لكنَّه سيتحسن بعد ذلك وبشكل ثابت.. على هذا النحو تقريباً، يتصور الاقتصاديون مسار معدل التضخم في الولايات المتحدة خلال هذه السنة.
تظهر الأرقام الصادرة يوم الأربعاء على الأرجح، أنَّ أسعار المستهلكين قفزت بنسبة 7.1% في شهر ديسمبر على أساس سنوي؛ وهي أسرع زيادة سنوية لها منذ أربعين عاماً، وفقاً لمتوسط التوقُّعات في مسح أجرته "بلومبرغ". قد يعني هذا أنَّ زيادة الأسعار ربما بلغت ذروتها، أو أنَّها اقتربت منها، إذ من المتوقَّع أن تنحسر القوى التي دفعت معدل التضخم إلى الارتفاع أثناء جائحة كورونا.
اقرأ أيضاً: بعد صعودها لأعلى مستوى منذ عقد..أسعار السلع مُرشّحة للتراجع في 2022
ينتظر أن تصبح سلاسل التوريد نوعاً ما أكثر انتظاماً واستقراراً في وقت لاحق من هذا العام. ولا يرجح أن تتكرر حالة التبذير في الإنفاق على السلع المعمرة مرتفعة الأثمان التي شهدتها فترات الإغلاق، والتي دفعت بالأسعار إلى عنان السماء.
اقرأ المزيد: هذا ما سيعلمه لنا تضخم 2022 عن الرأسمالية
بعض السلع الأساسية، ومن بينها النفط، انخفضت أسعارها عن مستواها المرتفع أثناء تفشي الجائحة، والاحتياطي الفيدرالي يضغط على مكابح السياسة النقدية، والفروق الإحصائية سترجّح الكفة باتجاه انخفاض معدلات التضخم.
تفاؤل بلجم التضخم
إذا أضفنا كل هذه العوامل إلى بعضها؛ سيتضح لنا لماذا يتوقَّع معظم الاقتصاديين أن يتباطأ معدل التضخم إلى أقل من 3% بنهاية عام 2022. وعلاوة على ذلك؛ توقَّع الاقتصاديون احتواء ضغوط الأسعار بنسبة أكبر في العام الماضي، لكنَّهم أخفقوا إلى حد كبير في تخمين ارتفاع الأسعار الناتج عن الجائحة.
اقرأ أيضاً: وزيرة الخزانة الأمريكية: وظيفة "الفيدرالي" منع حدوث دوامة ارتفاع الأجور والأسعار
ربما يبالغون في التفاؤل حالياً. فأسعار الإيجارات تتأهب للارتفاع، وفق مؤشرات قطاع العقارات التي تستبق عادة الأرقام الرسمية. والأجور تكتسب قوة دافعة هي الأخرى، خصوصاً عند المستويات الدنيا في سلم الرواتب، وقد تستمر في الزيادة في ضوء ارتفاع الطلب على الأيدي العاملة. ويهدد "أوميكرون"، أو أي متحور جديد لاحق من فيروس كورونا، بتفجير جولات أخرى من إغلاق المصانع وفوضى سلاسل التوريد.
فيما يلي، نقدّم تلخيصاً لبعض العوامل الرئيسية التي ستحدد ما إذا كان التضخم المرتفع حالياً سينحسر ويضعف، أم أنَّه سيستمر على ارتفاعه فترة أطول.
ينبغي أن يضعف لأنَّ: مشكلة نقص البضائع ستتلاشى...
دفع فيروس كورونا الناس إلى خفض إنفاقهم على الخدمات، مثل السفر والترفيه، وزيادة الإنفاق على السلع مثل: أجهزة الكمبيوتر، والأثاث. وقد شكل ذلك ضغطاً هائلاً على قدرة العالم على إنتاج السلع ونقلها من مكان إلى آخر.
هناك بعض الدلائل على احتمال بداية انحسار أزمة سلاسل التوريد. فقد انخفض الشهر الماضي مؤشر يقيس أسعار شراء المواد الخام التي تسددها الشركات الصناعية في الولايات المتحدة، في حين يشير مؤشر جديد لبنك الاحتياطي الفيدرالي لقياس اضطرابات سلاسل التوريد إلى أنَّ المرحلة الأسوأ ربما تنتهي قريباً.
ربما يتباطأ معدل نمو الطلب في الفترة المقبلة؛ فقد أوقفت الحكومة برامج المساعدات المرتبطة بالجائحة التي رفعت القدرة المالية للمستهلكين، برغم أنَّ الأسر مازالت تحتفظ ببعض السيولة النقدية التي ادخرتها. وقد يترتب على ذلك أن تؤثر المنتجات التي انخفض معروضها مثل السيارات والأثاث، والتي ساهمت بأكبر نسبة في التضخم في عام 2021، تأثيراً عكسياً هذا العام.
كتب اقتصاديو "غولدمان ساكس" في الأسبوع الماضي: "يرجّح أن يؤدي انخفاض أسعار السلع المعمرة إلى تراجع مستوى التضخم بنهاية عام 2022، بدرجة أكبر من تعويض الزيادة الحادة في تكلفة الإسكان".
الاحتياطي الفيدرالي يشدد السياسة النقدية...
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تحولاً حاداً في توجّه مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي، الذين أمضوا معظم فترة انتشار الجائحة يردّدون الوعود بالابتعاد عن السياسة التقشفية حتى تتعافى معدلات التوظيف. وهم يلمّحون الآن إلى عودة زيادة أسعار الفائدة، ربما بشكل مبكر في مارس المقبل، من أجل تهدئة ارتفاع الأسعار.
يستغرق رفع أسعار الفائدة بعض الوقت قبل أن يظهر تأثيره في الاقتصاد، ولذلك؛ فإنَّ تأثر مستوى الأسعار هذا العام سيكون محدوداً. غير أنَّ تحوّل سياسة الاحتياطي الفيدرالي قد يضمن ألا يصبح المستهلكون والشركات على استعداد لاستقبال زيادة التضخم –في نوع من التوقَّع الذي يتسبب في تحققه. فمنذ منتصف نوفمبر تقريباً، عندما بدأ البنك المركزي يلمّح إلى التبكير في زيادة أسعار الفائدة؛ تراجعت مؤشرات توقَّع التضخم في أسواق السندات.
...تأثير سنة الأساس
إنَّ جانباً من ارتفاع معدل التضخم العام في السنة الماضية نشأ عمّا يعرف في لغة الاقتصاديين بتأثير سنة الأساس. فعند حساب التغير في الأساس سنة بعد أخرى؛ كانت نقطة المقارنة الأساسية هي سنة 2020 –عندما تسببت جائحة كورونا في بدايتها بتدهور تكلفة كل أنواع السلع والخدمات. نتج عن ذلك ارتفاع ظاهر في قراءة التضخم لعام 2021. غير أنَّ تأثير سنة الأساس سيتحرك في الاتجاه العكسي هذا العام. وبداية من فصل الربيع، ينتظر أن يبدأ الاقتصاديون في تخفيض أرقام معدل التضخم السنوي.
قد يستمر ذلك، لأنَّ: "الإيجارات مازالت ترتفع..."
أدى ازدهار قطاع العقارات الذي اكتسب قوة، ورفع الأسعار إلى مستويات قياسية، إلى زيادة تكاليف الإيجار، وفقاً لمؤشرات أعدتها مراكز بحوث قطاعية مثل: "زيلو" (Zillow)، و"ياردي" (Yardi).
بسبب عيوب بنيوية ناتجة عن طرق القياس، لم ينعكس ذلك حتى الآن بالدرجة ذاتها في المؤشرات الرسمية لأسعار المستهلك، ولكن يرجّح أن يحدث ذلك. وبما أنَّ السكن يستحوذ على حصة كبيرة من ميزانيات الأسر؛ فإنَّ تأثيره كبير في مؤشرات التضخم أيضاً.
يقول ديفيد ويلكوكس من "بلومبرغ إيكونوميكس": "إنَّ تكلفة الإسكان قد ترتفع بنسبة تتراوح بين 6% و7% عن مستوياتها في الأعوام الثلاثين الماضية" بحلول الصيف المقبل.
وللعمل قوة مؤثرة...
مع تباطؤ الأمريكيين في العودة إلى سوق العمل، أو خروجهم تماماً منها لأسباب متنوعة ويرتبط معظمها بجائحة كورونا؛ يكتشف العمال أنَّهم يمكلون قدرة أكبر للمطالبة بتحسين أجورهم، نظراً لحاجة الشركات الماسة إلى التوظيف.
ارتفع متوسط أجر الساعة بنسبة 4.7% في ديسمبر مقارنة بالعام السابق، بما يقرب من ضعف متوسط الزيادة السابقة.
الأمريكيون من أصحاب المداخيل المنخفضة في أدنى سلم الأجور –الذين يميلون إلى إنفاق جزء كبير من أجورهم على الضروريات– يحصلون على زيادات أكبر. ويرى بعض المحللين المخاطر من إمكانية أن تدخل الأجور والأسعار في سباق باتجاه الزيادة، كما حدث في سبعينيات القرن الماضي، على الرغم من انخفاض القدرة التفاوضية للعمال الأمريكيين حالياً.
قال ستيفين ستانلي، كبير الاقتصاديين لدى "أمهيرست بيربونت سيكيوريتيز" (Amherst Pierpont Securities) في مذكرة حديثة: "لدى العمال الآن الجرأة والحماس؛ إذ اكتشفوهما حديثاً في أنفسهم للمطالبة بزيادة الأجور، كما يتضح من عدد الإضرابات في الأشهر الأخيرة". وأضاف: "لم يبدأ حتى الآن سباق الأجور والأسعار بصورة كاملة، غير أنَّه من المقبول منطقياً القول، إنَّ هناك خطراً يتمثل في عدم القدرة على السيطرة على توقُّعات زيادة التضخم".
...والعرض مازال غير واضح
استمرت أزمات العرض فعلاً لفترة أطول مما توقَّع معظم المحللين، مما يجعل الحديث عن بلوغ ذروتها محفوفاً بالمخاطر. مثال ذلك يتمثل في أنَّ نقص أشباه الموصلات تسبّب في أزمة في أسواق السيارات منذ بداية الجائحة، وفي الشهر الماضي زادت فترة الانتظار للتسليمات مرة أخرى.
ربما الأهم من ذلك، يتمثل في أنَّ هناك خطراً من إمكانية تحور الفيروس مرة أخرى. وحالياً، في أحد أهم موانئ العالم – وهو ميناء "نينغبو" في الصين– أدت موجة انتشار جديدة إلى فرض ضوابط صارمة على حركة سيارات النقل التي تنقل البضائع إلى داخل الميناء وخارجه، كاشفة إلى أي مدى لا يستطيع أحد أن يعرف ماذا سينتج لاحقاً عن فيروس "كوفيد-19"؟.