اتخذت البنوك المركزية الكبرى قراراً مهماً هذا الأسبوع، حيث قررت أن فيروس كورونا لم يعد يحتل الصدارة في اقتصاداتها، بل بات التضخم هو التهديد الأكبر الآن.
طوال عامين تقريباً، كان التحدي الرئيسي الذي يواجه السلطات النقدية هو توقع المكان الذي قد تظهر فيه الضربة الوبائية التالية، وتخفيف تأثيرها على النمو الاقتصادي والتوظيف.
اقرأ أيضاً: 5 قضايا غامضة أمام البنوك المركزية ستُحدد شكل الأسواق في 2022
لكن لم يعد الحال هكذا بعد الآن. في اليومين الماضيين، تحوّلت البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا، وبسرعات متفاوتة، نحو تطبيق سياسة أكثر تشدداً، وهي ترى الآن أن كبح جماح الأسعار بات أولوية متقدّمة على حماية الإنتاج والعمالة من مزيد من تداعيات الوباء.
اقرأ المزيد: "الفيدرالي الأمريكي" يُشدِّد سياسته النقدية حالياً لتجنب الألم الحقيقي لاحقاً
يوم الخميس، كان بنك إنجلترا أول بنك مركزي في مجموعة الدول السبع يرفع أسعار الفائدة منذ بدء وباء كوفيد-19. وقال الاحتياطي الفيدرالي يوم الأربعاء إنه سيقدّم موعد إنهاء برنامج شراء السندات، مشيراً إلى ثلاث زيادات في معدلات الفائدة في العام المقبل، في حين يعمل البنك المركزي الأوروبي أيضاً على إنهاء تطبيق إجراءات الطوارئ.
يقول مارك كابانا، رئيس إستراتيجية أسعار الفائدة الأمريكية في "بنك أوف أميركا": "لا يبدو أن الاحتياطي الفيدرالي أو البنوك المركزية الأخرى تشعر بضرورة تجاهل الإشارات البالغة القوة وقراءات التضخم المتنامية التي كانت تشاهدها بسبب كوفيد فقط. في الواقع نحن نرى هذه البنوك تفعل ما هو عكس ذلك".
الفيروس باقٍ
وراء هذا التحوّل يكمن التقييم القائل بأن كوفيد-19 لن يختفي، وعلى الدول الغربية أن تكتشف كيفية التعايش معه، وهكذا سيكون تأثير كل طفرة فيروسية على الاقتصادات أقل من سابقاتها.
قالت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي يوم الخميس: "حصل الكثير من الأشخاص على التطعيم، وتتسارع حملات الجرعات المعززة. أصبح المجتمع أفضل في التعامل مع موجات الوباء والقيود الناتجة عنها، ما يقلل من تأثير الوباء على الاقتصاد".
إضافة إلى ذلك، ونظراً لأن محافظي البنوك المركزية قد تعلموا المزيد عن التضخم الوبائي، فقد توصلوا إلى وجهة نظر مختلفة حول كيفية تأثير تفشي الفيروسات الجديدة على الاقتصاد.
في بدايات الأزمة، كان التركيز على عمليات الإغلاق كمثبط لطلب المستهلكين، وهو ما يمكن أن تساعد السياسة النقدية المتساهلة في دعمه. الآن، يشعر المسؤولون بالقلق أيضاً بشأن الطريقة التي تمنع بها القيود الصحية توريد البضائع ونقلها، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وتعزيز حجة رفع أسعار الفائدة.
يقول سانجاي راجا، الاقتصادي في "دويتشه بنك" في لندن: "تتعلق الأطر الاقتصادية السابقة بما يحدث لنمو الطلب. الآن يتعلق الأمر بالضربة التي يتلقاها الطلب مقابل الضربة التي يتلقاها العرض. وهذا يغيّر كل الحسابات".
إجراءات متفاوتة السرعة
لا تظهر جميع البنوك السرعة ذاتها. يوم الجمعة، أعلن بنك اليابان أنه لن يسحب مساعداته لمكافحة الأوبئة إلا ببطء. كما مدد مساعدة القروض للشركات الصغيرة المتعثرة لستة أشهر أخرى.
بالنسبة إلى أولئك الذين يراهنون على مستويات الأسعار، فمن الواضح أن الفوضى التي سببتها سلالة أوميكرون أنشأت الكثير من المخاطر من تغيير السرعة.
في أوروبا خصوصاً، تعيد الحكومات فرض بعض القيود، من توجيهات العمل من المنزل إلى قيود السفر التي رفعتها في وقت سابق من العام، بعد أن انتشرت الحالات بسرعة وامتلأت المستشفيات مرة أخرى. تعرّضت الحكومات للانتقاد لكونها مرتاحة للغاية بشأن التضخم في الأشهر الأخيرة، وهناك مخاطر من أن المسؤولين يقللون من أهمية الوباء الحالي أكثر من اللازم في هذه الفترة.
مع ذلك، أوضح محافظو البنوك المركزية في المؤتمرات الصحفية هذا الأسبوع، أنهم يرون أن مخاطر كوفيد آخذة في التناقص، في حين بدا أن صبرهم قد نفد بشأن ضغوط الأسعار.
يوم الأربعاء، رفض رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، الاقتراح القائل بأن البنك المركزي الأمريكي يجب أن يمتنع عن إنهاء ما يسمى بالتخفيض التدريجي بحلول مارس، بسبب تهديد الفيروس الأخير. وقال: "لا علاقة كبيرة لأوميكرون كثيراً بهذا الأمر".
اعترف باول بأن هناك الكثير من الأمور المجهولة التي تحيط بالمتغير الجديد. وأشار إلى أن آخر سلالة انتشرت في جميع أنحاء العالم، أضرت بجانب العرض للاقتصادات وتسببت في تقليص الطلب.
سلاسل التوريد
قال باول: "كان لسلالة دلتا تأثير على إبطاء التوظيف، لكنها أضرّت أيضاً بعمل سلاسل التوريد العالمية".
دفعت هذه الاضطرابات، إلى جانب الطلب الاستهلاكي القوي المدعوم بالإنفاق الحكومي لحماية الأسر أثناء الوباء، التضخم إلى أعلى مستوياته خلال سنوات عدة بالنسبة إلى الاقتصادات الغربية.
جادل محافظو البنوك المركزية حتى وقت قريب بأن ارتفاع الأسعار لن يدوم طويلاً، وهو الموقف الذي يتراجعون عنه الآن.
إنهم قلقون من أن عوائق سلسلة التوريد، وتحوّلات سوق العمل الناجمة عن كوفيد-19، قد تبقى لفترة من الوقت. وإذا ترسّخ التضخم، فقد تتوقع الأسر والشركات المزيد من ذلك، وقد يثبت هذا التوقع أنه يحقق نفسه بنفسه.
تراهن البنوك المركزية الآن وبفعالية، على أن الموجات الجديدة من الفيروس، أو على الأقل التأثير الاقتصادي لها، هو ما سيتحوّل ليكون أمراً مؤقتاً.