بعد عشرين عاماً من وصول الصين إلى منظمة التجارة العالمية، تكافح الحكومات في جميع أنحاء العالم بشأن كيفية التعامل مع قوة التصدير الطاغية على مدار العقدين المقبلين.
ورغم الاتفاق الواسع، حتى من قِبَل أولئك الذين جلبوا الصين إلى خيمة التجارة العالمية، على أن دخولها لم يمضِ كما هو متوقع، فإن هناك القليل من الإجماع حول ما يجب فعله حيال ذلك.
وفشلت الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب في تضييق الخلل التجاري بين الولايات المتحدة والصين، مع ارتفاع الصادرات الصينية خلال الوباء، في الوقت ذاته، لم يتوطد بعد "تحالف الراغبين" المُستعد لانتقاد الصين على ممارساتها غير العادلة والمزعومة.
قالت تشارلين بارشفسكي، التي كانت أكبر مسؤولة تجارية في فترة رئاسة بيل كلينتون، وواحدة من مصممي انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية: "الوضع الذي نحن فيه الآن غير مؤكد بالمرة.. وهو وضع يتسم بعدم الاتساق وبدرجات مختلفة من الفشل وغياب الهدف المشترك".
بالنسبة للصين، فإن فوائد النظام الدولي القائم على القواعد واضحة، وعلى مدار العشرين عاماً الماضية نمت من المرتبة السادسة إلى ثاني أكبر اقتصاد مع تضاعف الناتج المحلي الإجمالي 11 ضعفاً إلى ما يقرب من 15 تريليون دولار، بينما زاد الاستثمار الأجنبي المباشر أربعة أضعاف.
وبالنسبة للدول الغنية، فإن الصورة مختلطة، إذ استفاد المصدرون من الامتيازات العميقة التي قدمتها الصين للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لكن المنافسة المتزايدة من السلع الصينية الرخيصة جلبت الألم للعمال الأجانب، خاصة في مجالات التصنيع كثيفة العمالة مثل الإلكترونيات والملابس والإطارات والصلب والألمنيوم.
يقول جويل سميث، بائع أثاث من الجيل الثاني في فايتفيل بولاية نورث كارولينا: "كنا نفقد وظائف هنا في نورث كارولاينا.. وإذا كان عليك فقط أن تدفع للناس دولاراً واحداً في الساعة، وكانت الرعاية الصحية عبارة عن علبة إسعافات أولية وأسبرين، فيمكنك التسبب في إفلاس الكثير من الأشخاص".
يتضح هذا الجانب السلبي في أبحاث الاقتصاديين مثل ديفيد أوتور وديفيد دورن وجوردون هانسون، المحللين الأوائل لما أطلقوا عليه "صدمة الصين"، حيث كشف بحثهم الأحدث أن خسائر الوظائف الأمريكية بسبب القوة الاقتصادية للصين - والتي قدّروا سابقاً أنها تجاوزت 2.5 مليون - استمرت في التفاقم في المجتمعات الأمريكية حتى عام 2019.
شعبويون وديمقراطيون
تفسر مثل هذه التحليلات لماذا أصبحت الصين ملفاً سامّاً في واشنطن، حيث يصطف المشرعون على جانبي الممر لوصف انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية بأنه خطأ يؤدي إلى قتل الوظائف.
خلال إدارة "ترمب"، أعلن الجمهوريون الشعبويون مثل السيناتور عن ولاية ميسوري، جوش هاولي، أنه ينبغي إلغاء منظمة التجارة العالمية، ونجح كبير المسؤولين التجاريين لـ"ترمب"، روبرت لايتهايزر، في تشويه آلية تسوية المنازعات بالمنظمة.
ورغم التغيير الأكثر إيجابية في اللهجة تجاه منظمة التجارة العالمية، فقد واصل الرئيس جو بايدن إلى حد كبير نهج سلفه المتشدد، ويعمل "بايدن" بنشاط على شل جهاز الاستئناف في منظمة التجارة العالمية، ويواصل فرض تعريفات "ترمب" غير المصرح بها على صادرات صينية بقيمة 300 مليار دولار.
وقالت الممثلة التجارية الأمريكية، كاثرين تاي، في خطاب مؤخراً: "لوقت طويل جداً، تسبب عدم التزام الصين بالمعايير التجارية العالمية في تقويض رخاء الأمريكيين وغيرهم حول العالم".
شكاوى تجارية
في أكتوبر الماضي، اتهمت الولايات المتحدة أقرب منافسة اقتصادية لها بالفشل في اللعب وفقاً لقواعد التجارة الدولية، وحذر سفير أستراليا لدى منظمة التجارة العالمية، جورج مينا، من التهديد الاقتصادي الصيني، وقال إن سلوكيات بكين التجارية مدفوعة بشكل متزايد بـ"اعتبارات سياسية".
تتضمن قائمة المظالم انتقادات بأن الحكومة الصينية تدعم الشركات المحلية على حساب المنافسة الأجنبية، وأنها تلعب دوراً مبالغاً فيه في إدارة مؤسسات الدولة، وأن الوصول إلى السوق الصينية لا يزال أمراً صعباً للوافدين الأجانب، بينما لا تزال سرقة الملكية الفكرية منتشرة على نطاق واسع.
ترفض الصين مثل هذه الاتهامات، قائلة إنها ترحب بالاستثمار الأجنبي، وإنها عززت القوانين لحماية الملكية الفكرية من بين تدابير أخرى. وقال نائب وزير التجارة الصيني، وانغ شوين، بعد أحدث مراجعة من قبل منظمة التجارة العالمية للممارسات التجارية الصينية: "إذا فحصتم الجدول الزمني، فستجدون أننا استوفينا تماماً التزاماتنا وتعهداتنا".
ورغم الشكاوى التجارية، تعمل الشركات الدولية على توسيع أعمالها التجارية في الصين، وقالت حوالي 97% من الشركات إنها تعتزم الاستمرار في الاستثمار في الصين، ويرجع ذلك أساساً إلى سوق الدولة الكبيرة والنمو المستمر وسلاسل التوريد المتطورة، وفقاً لدراسة استقصائية أجراها بنك إتش إس بي سي" مؤخراً.
وبينما يواصل الرؤساء التنفيذيون في الشركات التركيز على الفرص التجارية في "المملكة الوسطى"، (اسم أطلق على الصين في أوقات تاريخية سابقة)، تبحث الحكومات الغربية عن أدوات واستراتيجيات جديدة لمواجهة القوة الاقتصادية للصين، والكثير منها يستنتج أن منظمة التجارة العالمية ليست مناسبة لهذه الوظيفة.
قال روبرت زوليك، الذي ساعد في استكمال انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية بصفته الممثل التجاري للولايات المتحدة في عام 2001: "أكبر المشكلات - مثل الشكاوى بشأن الدعم الحكومي وغيرها من المميزات للشركات المملوكة للصين - تنبع جزئياً من نقص القواعد المتعلقة بمثل هذه المشكلات لدى منظمة التجارة العالمية".
بحسب تشانغ شيانغ شين، النائب الصيني للمدير العام لمنظمة التجارة العالمية، فإنه صحيحٌ أن "قواعد التجارة متعددة الأطراف الحالية لديها عيوبها".
وقال "تشانغ"، الذي يدعي أنه حفظ عن ظهر قلب كتاب قواعد المنظمة المكون من 34 ألف كلمة، إن قواعد منظمة التجارة العالمية "فشلت في تقديم منصة للأعضاء أصحاب النماذج المختلفة للتعاون والتنافس مع بعضهم بعضاً.. ويتعين على الصين والأعضاء الآخرين في منظمة التجارة العالمية أن يتكيفوا مع بعضهم بعضاً".
خطة بايدن
تتمثل خطة حكومة "بايدن" في العمل مع حلفاء الولايات المتحدة لتقديم نهج منسق تجاه الصين، وفي العام الجاري، أصلحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكبر معاركهما التجارية منذ عهد "ترمب"، وتضغط الولايات المتحدة حالياً من أجل خطط لإطار اقتصادي جديد لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
أعادت الولايات المتحدة أيضاً إحياء جهود التوفيق بين الاتحاد الأوروبي واليابان حول مجموعة من القواعد التي تتسبب في حواجز تجارية من أجل إدارة دعم القطاع الصناعي والشركات المملوكة للدولة وغيرها من الممارسات المشوهة للتجارة.
إذا نجحت المبادرة، فقد تمثل أكبر إصلاح لنظام التجارة العالمي منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية، لكن إجبار الصين على الانضمام إلى المحادثات، التي تهدف ظاهرياً إلى تقييد نموذج بكين الاقتصادي الذي تقوده الدولة، يظل عقبة رئيسية.
هناك شيء واحد واضح، وهو أن الحكومات الغربية اليوم أكثر حذراً بشأن التهديد التنافسي الذي تشكله الصين مما كانت عليه قبل جيل.
بحسب ما قال باسكال لامي، أكبر مسؤول تجاري في أوروبا في عام 2001: "يمكن للناس أن يقولوا إنه كان ينبغي علينا التفكير بشكل أفضل بشأن ما ستكون عليه الصين بعد 20 عاماً من الآن، وأنا أتقبل هذا الانتقاد، وربما كنا نفتقر لبعد النظر بعض الشيء".