يجذب نوع من التداول، انتباه السلطات التنظيمية في الصين، بعدما كان قد أوقع بنوكاً أوروبية عديدة في مصيدته.
هرعت البنوك الاستثمارية في الصين إلى بيع عقود مشتقات مالية معقدة إلى المؤسسات والمستثمرين الأثرياء في البلاد، وذلك على غرار المنتجات المالية التي تسببت في خسائر لشركة "ناتيكسيس" (Natixis) الفرنسية، والتي بلغت ما يقرب من 300 مليون دولار في عام 2018. تعِد هذه العقود، بما يشبه السندات المرتبطة بمؤشر أسهم، بعائدات من رقمين، طالما لا تتعرض الأسواق لانهيار مفاجئ.
كرة الثلج
تُطلق على هذه العقود في الصين، تسمية "كرة الثلج"، حيث حققت خلال بضع سنوات، مبيعات ضخمة لأكبر شركات الوساطة في البلاد، من بينها شركة "سيتيك سيكيوريتيز" (Citic Securities) وشركة "تشاينا إنترناشيونال كابيتال كورب" (China International Capital Corp).
في الوقت الذي تتوافر فيه منتجات الاستثمار ذات الصلة المرتبطة بالسوق منذ عقود من الزمن، برزت في ظل طفرة المبيعات الراهنة تساؤلات لدى السلطات التنظيمية الراغبة في إدراك المخاطر الفعلية التي تواجه شركات الاستثمار وعملاءها، خصوصاً مع ما تسببه أزمة ديون شركة " تشاينا إيفرغراند غروب" (China Evergrande Group) من قلق للأسواق. وبالفعل، بلغت مشتريات المستثمرين 440 مليار يوان (68 مليار دولار) من هذه المنتجات المالية، حسب واحدة من التقديرات المعلنة. وأسهمت خسارة شركة "ناتيكسيس" جراء عقود المشتقات المالية المرتبطة بسوق الأسهم في كوريا الجنوبية، في وضع نهاية لفترة عمل الرئيس التنفيذي السابق لشركة الإقراض هذه.
اقرأ أيضاً: الصين تكافح لمنع انتشار عدوى أزمة "إيفرغراند" وليس إنقاذها
يقول شو تشاو، مدير المنتجات المالية في شركة "تشاينا غالكسي سكيوريتيز" (China Galaxy Securities) في بكين، إن الوصول إلى لحظة اندلاع الخسائر، "سيتحقق قطعاً عند نقطة بعينها في المستقبل".
قياس المخطر
أجرت السلطات التنظيمية في غضون الأسابيع الأخيرة اتصالات مع شركات الوساطة المختصة بالمستثمرين الأفراد، كي تتمكن من قياس المخاطر المرتبطة بمنتجات "كرة الثلج" المالية، وفق مصادر مطلعة على الأمر، طلبت عدم الإفصاح عن هويتها نظراً لمناقشة معلومات سرية. حدث هذا في أعقاب توجيه هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية في شهر أغسطس الماضي، طلباً إلى شركات الأوراق المالية، بالعمل على ضمان بيع المنتجات المالية فقط للمستثمرين التي تنطبق عليهم المعايير، مع توضيح المخاطر المرتبطة بها على نحو كامل، حسب المصادر. وضعت هيئة إدارة الأصول في الصين، صاحبة السلطة الرقابية على القطاع، سقفاً لحجم استثمارات صناديق الاستثمار في المنتجات المالية المسماة بـ"كرة الثلج"، بنسبة لا تتجاوز 25% من قيمة الأصول لديها.
لم تستجب هيئة إدارة الأصول الصينية ولا هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية لطلبات التعليق. وكانت وسائل إعلام محلية قد كشفت للمرة الأولى عن التوجيهات الإرشادية التنظيمية خلال شهر أغسطس الماضي.
بحسب ما كتبه محللون في شركة "سي آي بي ريسيرش" (CIB Research) يقودهم وانغ نينغ في شهر يونيو الماضي، فإن المبيعات الشهرية لدى بعض شركات الوساطة الكبرى في الصين تبلغ نحو 3 مليارات يوان. أدى تداول المشتقات المالية خارج منصة البورصة وصناديق الاستثمار الخاصة، إلى طفرة بنسبة 49% في عائدات استثمار شركة "تشاينا إنترناشيونال كابيتال كورب"، وتحقيق مكاسب ذات قيمة عادلة تصل إلى 8.2 مليار يوان في الأشهر الستة من العام الجاري والمنتهية في شهر يونيو الماضي، بحسب ما أظهره تقرير مؤقت صادر عنها. تضاعف تقريباً حجم تعرض شركة "هواتاي سيكيوريتيز" (Huatai Securities) للاستثمار في عقود مشتقات الأسهم خلال هذه الفترة، مرتفعاً إلى 326 مليار يوان.
اقرأ المزيد: "المركزي الصيني" يمتص أكبر قدر من السيولة من النظام المصرفي في عام
لم يرد ممثلو كل من شركات "سيتيك" و"تشاينا إنترناشيونال كابيتال كورب" و"هواتاي سيكيوريتيز" على طلبات بالتعليق.
عقود جذّابة
يمثل هذا التداول نوعاً من التعاملات التي سعت البنوك عالمياً إلى تحقيق أقصى استفادة منها، من خلال أنماط متباينة من العقود. يشتري العملاء سنداً بفائدة مرتبط بأداء مجموعة أسهم أو مؤشر ما. في ما يتعلق بكثير من المنتجات المالية، لا يتعرض المستثمر لخسارة أمواله، إلا في حال هبطت الأسهم الأساسية تحت مستوى محدد سلفاً، بحيث إنها لا تعافى مرة أخرى. تتمتع هذه العقود بجاذبية، خصوصاً في هذه السوق الصاعدة التي تمتعت بها سوق الأسهم الصينية خلال معظم فترة تفشي وباء كورونا. وقد أدى حظر الصين لمنتجات استثمارية أخرى مرتفعة العائد ومضمونة ضمنياً ومفضلة لدى المستثمرين، إلى حدوث زيادة في انتشارها.
صُمّمت هذه المنتجات في الأساس، من أجل مستثمري الادخار اليابانيين، حين كانت أسعار الفائدة عند مستوى الصفر على مدى جيل كامل، ما جعل هذه المنتجات المالية، التي تُعرف أيضاً بـ"ذاتية التوزيع"، و"الأوراق المالية المرتبطة بالأسهم"، تعتبر بثمابة دعامة رئيسية لسوق كورريا الجنوبية. وتتمتع "سندات العائد الثابت" والتي بيعت من قبل بنوك استثمارية كبرى، بسمات مشابهة.
توفر شركات الوساطة في الصين عائدات سنوية تصل نسبتها عادة إلى ما يتراوح بين 12% و20%، ولذلك يُطلق على عقود المشتقات المالية المباعة بطريقة مباشرة تسمية "كرة الثلج"، لأن العوائد التي يحققها المستثمرون، تنمو مع احتفاظهم بالعقد.
جاء تصاعد عمليات التدقيق، مع تلقي الأسواق ضربة عنيفة جراء تداعيات أزمة ديون شركة التطوير العقاري "إيفرغراند"، وإجراءات فرض قيود تنظيمية كبيرة استهدفت القطاع الخاص، في ظل ظهور مؤشرات على حدوث تباطؤ في النمو الاقتصادي. كل ذلك، أدى إلى توقف ارتفاع -بشكل مؤقت على الأقل- مؤشر "سي إس آي 500" للشركات ذات القيمة السوقية المنخفضة في بورصة شنغهاي، وهو المؤشر الرئيسي لكثير من منتجات "كرة الثلج"، والذي كان قد سجل تراجعاً بحوالي 8% منذ صعوده الشهر الماضي إلى مستويات لم يسجلها منذ عام 2015.
المستثمرون الأفراد
يعتبر جيسون هوو، واحداً من الأشخاص الذين جذبتهم تلك العوائد. عندما اشترى سنداً من شركة "سيتيك"، عُرض عليه عائد سنوي يبلغ 18% إن لم يهبط مؤشر "سي إس آي 500" للشركات ذات القيمة السوقية المنخفضة بأكثر من 20% طوال مدة عقده، وهي سنة واحدة. يمكن مقارنة ذلك مع مع عائد يبلغ نحو 3% على سندات الصين لأجل 10 سنوات. استثمر هوو الذي يعمل مستشاراً للاستثمار في بكين، مبلغ مليون يوان في هذا المنتج المالي قبل أكثر من عام، ووضع في جيبه في يناير الماضي، الحد الأقصى للعائد الذي وُعد به.
تستثمر بنوك الاستثمار جزءاً من الأموال التي تتلقاها من المستثمرين، في تداول العقود الآجلة لمؤشر الأسهم، ما يحقق لها أرباحاً، وتحوّطاً ضد المخاطر الخاصة بها في الوقت ذاته، بحسب شو، الذي يعمل أيضاً مدرباً داخلياً على منتجات المشتقات المالية في شركة "تشاينا غالاكسي" (China Galaxy). وأشار شو إلى أن فارق العائد بين المؤشر وسعره في العقود الآجلة يزيد من إيراداتهم، وفي الوقت ذلاه، يجري ضخ الأموال المتبقية، والتي ربما تمثل 80% أو أكثر من الإجمالي، في استثمارات الدخل الثابت.
اعتبرت المكاسب الناجمة عن تنوع التعاملات، عامل جذب لا يمكن مقاومته من قبل البنوك خارج الصين على مدى سنوات، وذلك رغم العثرات على الطريق. ورغم ما حدث من تراجع جراء عمليات التداول "ذاتية التوزيع" في كوريا الجنوبية، إلا أن شركة "ناتيكسيس" لديها خطط لاستئناف بيع هذه المنتجات المالية للعملاء من منطقة آسيا، وفقاً لما ذكرته وكالة بلومبرغ خلال الشهر الماضي. قالت ناثالي بريكر، التي تعمل في منصب المدير المالي بالشركة، خلال عرض تقديمي حول الأرباح ربع السنوية عقب مرور أشهر عدة على تكبد شكرتها لخسائر، إنها واجهت عثرات خلال عام 2018 جرّاء "التحوّط غير الكامل"، حيث تخصص البنوك رهانات مقاصة لحماية قيمة محافظها أو استثمارات تحوطية، والتي تتحول إلى استثمارات معقدة وباهظة التكلفة بطريقة متنامية عندما تبدأ الأسهم بالانخفاض.
دخل بنك "كريدي سويس" سوق المشتقات المالية الكورية خلال عام 2006، كنوع من المناورة التي تهدف إلى تحقيق نتيجة معاكسة لاضطراب السوق، لكنه خسر حوالي 120 مليون دولار. كما اكتوت بالخسائر بنوك "باركليز" و"سيتي غروب" و"آي إن جي غروب" (ING Groep) على مر السنين. وفي عام 2015، اكتشف المضاربون في هذه المنتجات المالية أنهم قد تورطوا، بعد هبوط الأسهم الصينية المتداولة في بورصة هونغ كونغ.
رغم اختلاف التقديرات، إلا أن شركة "تشانغجيانغ سيكيوريتيز" (Changjiang Securities)، قدّرت سوق منتجات "كرة الثلج" في الصين إلى مستوى 440 مليار يوان، كما في 31 مارس، وذلك حسب تقرير لها صدر في شهر مايو الماضي.
رغبة في تطوير السوق
من المؤكد أن جميع العملاء تقريباً الذين اشتروا منتجات "كرة الثلج" المالية المرتبطة بمؤشر "سي إس آي 500" خلال العامين الماضيين، حققوا أرباحاً بفضل الارتفاع المعتدل للمؤشر خلال تلك الفترة، كما قال شيانغ بينجفي، العضو المنتدب المسؤول عن تداول عقود المشتقات المالية في شركة "سي إس سي فاينانشال" (CSC Financial)، خلال عرض تقديمي مخصص للمستثمرين عبر الإنترنت في 20 أغسطس الماضي. أشار شيانغ إلى أن السلطات التنظيمية لا ترى "مشكلات كبيرة" في المنتج المالي بحد ذاته، بيد أنها ترغب أكثر في أن يتطور السوق على بطريقة "صحية".
في الوقت الذي يعرّض فيه المستثمرون استثماراتهم للخسائر في حال هبوط السوق، فإن منتجات "كرة الثلج" عادة، لا تعتمد على رافعة مالية، وبالتالي، فإن خسائرهم لن تتخطى مستوى التراجع في المؤشر الأساسي.
في الأشهر الأخيرة، أضاف هوو إلى رهاناته منتجات "كرة الثلج" المالية، حيث توقع المزيد من الصعود. وقال: "ستسير الأمو على نحو جيد، حتى لو هبط السوق بنسبة 20%، وهو أمر مستبعد للغاية".