ذاع سيط نظام الاستحقاق أو الجدارة أو ما يُعرف بـ"الميرتوقراطية"، كسياسة شائعة في عملية تنظيم المجتمع وهيكلته، لكن الاستعانة به لمساعدة اللجان المتخصصة على اختيار الطلاب للدراسة في جامعة "ييل" (Yale) أو اختيار علماء الفضاء الذين سيعملون على "مرصد هابل الفضائي" (Hubble Space Telescope)، يعد أمراً شبه مستحيل على أرض الواقع.
وتظل عملية قياس الجدارة ليست سهلة، حتى وإن أمكن إجراؤها في التنس أو السباحة، فإن صعوبتها تزداد في المجالات الفنية أو العلمية وفي اختيار الطلاب للالتحاق بالجامعات؛ فعندما يَصعُب قياس الاستحقاق، تميل بعض المؤسسات التي تعتمد هذا النظام إلى ترشيح الطلاب، بناء على نجاحاتهم وإنجازاتهم السابقة حتى ولو كانت قائمة على أحكام غير موضوعية وبعض من الحظ الجيد.
ولعل ما سبق يفسّر السبب الذي يدفع الأهالي إلى الرشوة لوضع علامةٍ أو إنجاز فارقٍ في سجل أولادهم يمحنهم رخصةً تمكنهم من الالتحاق بإحدى الجامعات رفيعة المستوى، إلا أن العلماء القائمين على "مرصد هابل الفضائي" وجدوا طريقة لتحسين تقييم الجدارة واختبروها علمياً، والرائع بالأمر إمكانية تطبيقها في العديد من المجالات الحياتية الأخرى.
يذكر أن موارد "مرصد هابل" محدودة، وتضع حداً لما يمكن له إنجازه علمياً في كل يوم، ولهذا السبب يتعيّن على اللجنة المسؤولة اختيار عدد قليل من بين مئات الطلبات المثيرة للإعجاب. واكتشف الباحثون قبل 5 سنوات أن فرصة الموافقة على المشاريع التي يكون رؤساؤها ذكوراً أكبر من تلك التي تترأسها الإناث. فهل كان ذلك لأن المشاريع التي أدارها وأشرف عليها الذكور أفضل أم لأن اللجان كانت متحيزة تجاههم؟
هنا قرر الباحثون التحرّي أكثر في هذه المسألة، عبر إجراء تجربة يقومون فيها بتصفيات لاختيار المشاريع بعد التأكد من إزالة جميع الأسماء والانتماءات التي من شأنها الإشارة إلى هوية المتقدمين، وما قام به الباحثون في هذه التجربة هو جعل الدراسة غير معلنة في طريقة شبيهة بالتجارب الطبية، التي لا يطلع فيها المرضى والباحثون على الدواء الذي يتناوله كل فرد إن كان حقيقياً أو وهمياً.
بعد النظر إلى نتيجة التجربة، انعكست المشكلة المتعلقة بالنسبة بين الذكور والإناث على ما يبدو، إذ حصلت الإناث على نسبة أعلى من الموافقات لأول مرة منذ 17 عامًا، عندما بدأ المعنيون برصد هذه النسبة، إلا أن لهذه الدراسة عواقب أخرى، وتم نشرها بالتفصيل في إصدار هذا الشهر من مجلة "الفيزياء اليوم" (Physics Today) في مقالة قامت عالمتا فلكٍ في كتابتها، حيث ساعدت إحداهن في إنشاء عملية التقييم العمياء فيما عملت الأخرى على مراقبةٍ للعملية ذاتها.
ويعود ذلك إلى إدراك العالمتين ما تنطوي عليه طبيعة هذه التقييمات "مزدوجة التجهيل" من تحديات أكبر وتسليطها الضوء على مسألة أخرى؛ لأنها لم تقم بجعل جنس المتقدمين مجهولاً فحسب: "فقد توجب على المراجعين البحث عن أهم الأسئلة الفكرية الأساسية وتقييمها دون الاستعانة بالسجل السابق لمقدم الطلب".
ومثلت النتيجة التي توصّلت إليها المؤلفتان، نقطة تحوّل هامة أثرت على عمق النقاش وأبعاده؛ حيث ساعدت التجربة المراجعين على قراءة طلبات الالتحاق بتعمّق وعناية شديدين بدلًا من سلك الطريق الأسهل وافتراض ضرورة اختيار علماء الفلك الأكثر شهرة. وتستند التقييمات بشكلٍ كامل على الجدارة والاستحقاق، كما تفسح المجال للأفراد الجدد في المجال وأولئك الذين تخرجوا من المؤسسات التعليمية الأقل شهرة، في وقت يخضع الأفراد المعروفون في مجالهم للمراجعة بشكلٍ موضوعي ونقدي.
وفقًا للمقال الذي نشر في مجلة "الفيزياء اليوم"، فإن هذه التجربة نجحت بالفعل لدرجة أنه سيتم تقييم جميع الاعتمادات المستقبلية "لمرصد هابل" بنفس الطريقة. ومن الممكن اتباع طرق شبيهة أخرى في تحسين العدالة وجودة العلوم في العديد من الإجراءات التنافسية الأخرى.
لقد أُعجبت بفكرة التجهيل كثيرًا حتى أني كنت قبل بضعة سنوات، عندما عملت على تقييم التغطية الإخبارية لصالح موقع للنقد الإعلامي يطلق عليه "نايت ساينس جورناليزم تراكر"(Knight Science Journalism Tracker) كنت أعمد إلى جمع المقالات والتأكد من حذف عناوينها وأسماء كتابها كي أتمكن من قراءتها وتقييم محتواها دون التأثر بأي عوامل أخرى كشهرة الكاتب ومكانته مثلاً.
أما الفيزيائي "ألبرت لازلو باراباسي" (Albert-Laszlo Barabasi) من جامعة "نورث إيسترين" (Northeastern) في كتابه "ذا فورميلا فيقول: إن "ذا يونيفيرسال لو أوف سَكسِس" (The Formula: The Universal Laws of Success) تجربة مماثلة أُجريت في بوسطن عندما أجرى العازفون اختبارات الأداء للعزف في أوركسترا بوسطن الموسيقية، حيث كان المتقدمون يعزفون من وراء ستار ليتمكن الحكّام من سماعهم دون رؤيتهم.
وساعدت هذه الطريقة على معادلة الفارق الكبير في نسب الذكور والإناث الناجحين، ولا سيما بعد وضع سجّادة على الأرض كيلا يتمكن الحكام من التعرف على النساء من صوت أحذيتهن. وعندما تحدثت مع "باراباسي" في مقالٍ سابق أوضح لي أنّ إجادة المرء مهارة ما ستوصله إلى مكان أو منصب محددّ فقط لأن قياس الجودة يزداد صعوبة بارتفاع المستوى، بحيث يحظى الأشخاص ذاتهم بالمناصب العليا والتقدير والجوائز في الغالب؛ لأن الانطباع الأول تجاههم يطغى ويجعلنا نفترض أنهم جيدون، فضلًا عن تفضيل عدم المخاطرة باختيار أشخاص غير معروفين.
إن إجراء المزيد من الاختيارات العمياء سيجبر القائمين على تقييم الاستحقاق على التفكير بشكلٍ أفضل وأعمق، الأمر الذي سيساهم في تحسين جودة العلوم والموسيقى وما سواها من مواضيع مطروحة للتقييم، ومنح جميع الأفراد فرصة تتيح لهم إظهار مقدراتهم. ورغم أن هذه الأساليب قد لا تتمكّن من تغيير الاعتقاد السائد بأن الالتحاق بجامعة مرموقة هو السبيل الوحيد للنجاح، إلا أن ما يهمنا هنا هو قدرتها على توفير طرق جديدة للنجاح.