من الصعب جداً، بعد المعاناة لعام كامل من تفشي وباء عالمي، التفاؤل بشأن مستقبل السفر للعمل، لكن بالنسبة إلى العاملين في شركة "أمريكان إكسبريس" (American Express) فإن مستقبل السفر التجاري يبدو كأنه نوع من المرح!
تعتزم شركة الخدمات المالية تبنّي عدد أقلّ من رحلات السفر عبر الأطلسي للاجتماعات الروتينية، ومزيد من تمارين بناء فريق العمل في الأجواء المشمسة، وقد يوجد مزيد من مهامّ العمل لإتمامها من بُعد من الشاطئ.
هذا هو السيناريو الذي قدّمه إيفان كونوايزر، نائب الرئيس التنفيذي للمنتجات والاستراتيجيات لدى "أمريكان إكسبريس غلوبال بيزنس ترافيل" (American Express Global Business Travel)، وهو بالتأكيد سيناريو تفاؤلي لأحد أكثر القطاعات تضرراً من الإغلاق المفروض للسيطرة على "كوفيد-19".
وتجد المطاعم وتجارة التجزئة، التي عانت أيضاً من الإغلاق، سُبلاً لمواصلة ممارسة الأعمال التجارية، كما يمكن أن يستفيد السفر الترفيهي على الأرجح من الطلب المكثف والقيود المرنة المفروضة على الحدود.
لكن الآن بعد أن أظهر العمال في مختلف أنحاء العالم قدرتهم على إدارة أعمالهم عبر مكالمات الفيديو طوال العام الماضي، أصبح من الصعب بيع تذاكر رحلات الدرجة الأولى الجوية التي يصعد على متنها عديد ممّن يتجهون لحضور اجتماع صباحي في لندن على سبيل المثال.
ويقول كونوايزر، من مكتبه في حي مانهاتن عبر موقع مكالمات الفيديو "زووم" (Zoom): "أصبح التحدث عن عدم الحاجة إلى عودة رحلات العمل مألوفاً للغاية"، وأضاف: "بعض الحقائق يجب الاعتراف به والتكيف معه، لكن السفر التجاري موجود لأسباب مهمة حقاً، فهو يساعد الشركات على إدارة الأعمال بنجاح".
تصوُّر مختلف للسفر بغرض العمل
وما يتوقعه كونوايزر هو وضع إعادة تصوُّر للسفر بغرض العمل، الذي يعطي الاجتماعات التجريبية أولوية، وفرصاً للترابط الشخصي بين العمال الموجودين في أماكن متفرقة العاملين من بُعد، والرحلات التي تبدو كأنها امتيازات عمل أكثر من كونها التزاماً. وأشار إلى سابقة لانتعاش قوي في مجال السفر التجاري.
ويقول: "بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، غادر الرؤساء التنفيذيون والمديرون الماليون وموظفو المشتريات، لكنهم عادوا جميعاً تدريجياً بعد إدراك أن السفر التجاري كان استثماراً في موظفيهم وثقافتهم وقدرتهم التنافسية".
ومن المؤكد أن صناعة السفر تتمتع هذه المرة بارتفاع أكثر حدة، إذ يشير المسؤولون التنفيذيون إلى أن ضربة "كوفيد-19" كانت أقوى من أزمة 2008 وأحداث 11 سبتمبر مجتمعتين.
وعادة ما يساعد قسم كونوايزر، الذي يدير السفر لصالح شركات كبرى في مختلف أنحاء العالم، الشركات في حجز 5 ملايين ليلة في غرف فندقية سنوياً. وكثير من هذه الغرف يُحجز تزامناً مع الأحداث والاجتماعات، التي تنظّم "أمريكان إكسبريس" نحو 100 ألف منها سنوياً.
وفي أمريكا الشمالية انخفض السفر بغرض العمل بنسبة 79% بين شهرَي أبريل وديسمبر في عام 2020. وقد وجد مسح أُجرِيَ مؤخراً في الولايات المتحدة أن 26% فقط من الشركات الصغيرة تخطط لمواصلة أي نوع من السفر في الأشهر الستة المقبلة.
ومن المنطقي استمرار بعض الشركات مثل "أمازون" في متابعة أعمالها التجارية العالمية عبر موقع "زووم"، بعد توفير مليار دولار من نفقات السفر خلال فترة تفشي الوباء.
ويقول كونوايزر إنه يعتقد أن السفر سيصبح ركيزة أساسية لثقافة الشركة.
وقد تتنافس الشركات أيضاً لجذب أفضل المواهب الراغبة في تطبيق مرونة أكبر في اختيار وقت الانتقال إلى المكتب أو التنقل من أجل العمل. وبهذا الصدد يقول كونوايزر: "الناس سيتخذون قرارات بشأن مكان العمل، استناداً إلى عدد المرات التي ينبغي الذهاب فيها إلى المكتب وما يعتبرونه حريتهم للتنقل".
لذا، ورغم التفاؤل بشأن عودة رحلات العمل، يقول كونوايزر إن ذلك سيحدث بطرق تنطوي على تغييرات هائلة لا رجعة فيها للصناعة.
السفر باعتباره مكافأة
إن أيام عبور البحيرة لحضور اجتماع ما، على وشك الانتهاء، وكذلك أيام الانتقال إلى مساحة عمل مشتركة يومياً. وهذا ليس بأمر سيئ لكونوايزر، الذي يقول: "الناس يريدون استراحة من المكوث بالمنزل، لذا فإن السفر لمدة أسبوع شهرياً قد يعيد توازن كل شيء بشكل كبير".
لكن رحلة كبيرة واحدة شهرياً، على عكس عدة رحلات قصيرة، ستكون أنباءً باهظة التكلفة لشركات الطيران، وبالتبعية ستكون باهظة لشركات مثل "أمريكان إكسبريس غلوبال بيزنس ترافيل"، التي تأتي أكبر عمولاتها من تذاكر الطيران. ومع ذلك، فإن الأمر يُعتبر دعوة لمديري شركات السفر إلى توفير المال وتحقيق مزيد من المتعة في الوقت ذاته.
ويقول كونوايزر: "إذا كنت تدخر مليون دولار من تكاليف العقارات المؤسسية سنوياً لجعل الموظفين يعملون من المنزل، فعليك إعادة استثمار نسبة عالية من هذا الإدخار، 50-70%، في موظفيك من خلال إتاحة السفر لهم".
وقد يكون هذا ما تتوقع سماعه من الموظفين الذين اعتادوا السفر للعمل، لكن الميزانية الخاصة بذلك تبدو موجودة بالفعل. فقد أظهر استطلاع أجرته شركة "ديلويت" (Deloitte) في يناير أن 75% من الرؤساء التنفيذيين المدرجين ضمن قائمة "فورتشن 500" (Fortune 500) يفكرون في تقليص حجم المساحات المكتبية.
وفي الوقت الحالي لا يزال وصف السفر بأنه مكافأة أمراً صعباً، وقد يتغير ذلك إذا استمر العمل من بُعد، لكن الوباء لن يتغير. ومع ذلك يمكن لرحلات بناء فريق العمل، التي يتوجه فيها الزملاء إلى مكان ممتع للمشاركة في الألعاب أو مسابقات الطهي، تغيير مفهوم السفر للعمل بطريقة مجدية.
وإذا كانت ثقافة الشركة سبباً لإعادة الاستثمار في السفر التجاري، فإن التبادل الثقافي يُعتبر سبباً آخر، كما يبدو أن تغيير المشهد كان مصدر إلهام وتحرُّر للرحالة الرقميين الجدد الذين أمضوا عامهم الأخير على موقع الاجتماعات "زووم" من المكسيك أو بليز.
ويقول كونوايزر: "الشركات تسمح بالعمل من أي مكان حالياً، فلا جدوى من اتباع نظام غير ذلك، لكن بعض الشركات قد يتبنى هذا المفهوم في وقت قريب أيضاً، بما قد يخلق موظفين أكثر اطّلاعاً ووعياً بالقضايا العالمية".
ومن الناحية العملية، قد يكون ذلك بسيطاً ككتابة السياسات التي تمكّن العمال من المشاركة من أي منطقة زمنية، وقد يشمل الجهد الأكثر وضوحاً إقرار استحقاقات الانتقال على أساس سنوي. ومن هذا المنطلق، أفاد كونوايزر بأن "هذا هو البديل من وجود مكتب جيد بكثير من الامتيازات".
نهاية جواز السفر
بالتأكيد تتغير لوجستيات السفر من أجل العمل أيضاً، فقد تحتاج إلى شهادة تلقيح إلكترونية في المستقبل القريب. لكن كونوايزر يقول إن جوازات السفر عموماً قد أوشكت على الزوال.
ويقول كونوايزر: "علينا تسهيل دخول الدول والخروج منها، فتطبيق مثل هذه التسهيلات مفيد للتجارة العالمية والمجتمعات".
وتوجد بالفعل تأشيرات رقمية ونقاط تفتيش آلية لدوريات الحدود، كما أن إضافة هذه التكنولوجيات المتطورة والحديثة، مثل الصعود البيومتري القائم على التحقق من هويتك بمسح مقلة العين أو بصمة الإصبع والكتيبات المختومة، يبدو كأنه أثريات من الماضي.
وسيكون الغرض الأساسي من ذلك هو حماية خصوصية البيانات، التي يمكن تحقيقها من خلال قواعد البيانات المتسلسلة، حسبما قال كونويزر. وإذا طُبق هذا الأمر فإن أشياء مثل أحدث نتائج اختبار كوفيد يمكن الوصول إليها أيضاً عبر نفس البوابة الرقمية والمشفرة.
ويقول أيضاً: "لا أعتقد أن هذا سيحدث بين عشية وضحاها، لكن بناءً على مدة استمرار الوباء، سيُسرَّع تطبيق تلك التقنيات كثيراً. وقد يتحول التنفيذ من مشروع مدته 10 أعوام إلى مشروع مدته 5 أعوام، وبالتأكيد ستتوقف المدة وفقاً لظروف كل بلد على حدة".
ويتوقع كونوايزر ظهور تطبيقات سفر أفضل، فتطبيقات الفنادق تتيح لك بالفعل تسجيل إجراءات الوصول واستخدام هاتفك كمفتاح للغرفة، في حين تسهّل تطبيقات شركات الطيران إعادة الحجز وإعلامك إذا كنت مسافراً في رحلة مكتظة، أي إن شركة الطيران باعت تذاكر أكثر من عدد المقاعد على متن الطائرة.
أما الخطوة التالية فستكون "تعاون النظم"، الذي يتيح تواصل كل هذه التطبيقات معاً، وعدم الحاجة إلى إعادة تسجيل المعلومات مراراً وتكراراً، وتبسيط العمليات المعقدة مثل طلب الحصول على تأشيرة.
تخيل إذا كان تطبيق التأشيرة، على سبيل المثال، بإمكانه الاتصال بتطبيقات شركة الطيران والصحة الخاصة بك لملء معلومات جواز السفر ورحلة الطيران والتطعيم تلقائياً. هذه التقنيات الحديثة قد تخفض الوقت المستغرق لإنهاء الأعمال الورقية من 30 دقيقة إلى 30 ثانية، وفقاً لكونوايزر.
تعزيز مستوى السهولة والكفاءة
عموماً، يرى كونوايزر أن السفر للعمل يجب أن يكون أسهل، ويقول: "علينا أن نذكّر أنفسنا بأنه ليس كل أفراد قوة العمل يتمتعون بمرونة متساوية"، في إشارة منه إلى الآباء والأمهات الذين تزداد الضغوط المفروضة عليهم لرعاية أطفالهم عندما يكون أحد البالغين مسافراً. وأضاف: "ليس لديّ حلّ سحريّ، لكن هذه هي المناقشات التي نحتاج إليها كشركات، وكمجتمع أيضاً".
وأحد الحلول التي طرحها كونوايزر يتمثل في توفير الشركات رعاية إضافية للأطفال في ميزانية سفر الموظفين.
يجب النظر في مسألة أخرى هي التأثيرات البيئية المرتبطة بالسفر التجاري أيضاً. يقول كونوايزر: "كصناعة، علينا تعزيز فكرة تشييد فنادق أكثر صداقة للبيئة، واعتماد شركات الطيران على البدائل المستدامة ومساعدتها على تسريع ذلك".
وفي الواقع، القوة الشرائية لهذه الصناعة، التي تبلغ 1.4 تريليون دولار في العام المتميز حسب رابطة سفر الأعمال العالمية، من الممكن، بل وينبغي استخدامها في الأعمال الجيدة. ففي ظلّ تعهُّد مزيد من الشركات بخفض بصمتها الكربونية، فإن هذه الخطوة ليست مجرد واجب أخلاقي للقطاع، بل إنها مسألة بقاء.
ويقول كونوايزر: "لست على استعداد للاعتراف بأن السفر الأقلّ هو الأفضل، لكن علينا جعل السفر أكثر كفاءة وسهولة واستدامة"، كما يعتقد أن السفر بغرض العمل مفيد في حد ذاته، قائلاً: "السفر للعمل مساهم أساسي في بناء العلاقات حول العالم، فهو أحد الطرق التي سنخلق بها مستقبلاً أفضل لأنفسنا".