يُنظر إلى الاستثمار في الفنّ على أنه طقس عبور لأصحاب الثقل في عالم المال، فيشكل دليلاً على انتقالهم من فئة لاعبي السوق غير المصقولين إلى مصاف أرستقراطيي العصر.
وتُحوّل مليارات الدولارات المكتسبة من أسواق الأسهم والسندات إلى لوحات لجاسبر جونز تعلق على الجدران أو إلى لوحات لبيكاسو تخبأ في مخازن "فريبورت" في جنيف، أو حتى إلى قرش ببري بطول 14 قدماً من توقيع داميان هيرست، يحفظ بواسطة مركّب الفورمالديهايد ويعرض وسط غرفة الجلوس في شقة ستيف كوهين الفاخرة.
ومع ارتفاع قيمة عملة "بتكوين" المشفرة بنسبة تجاوزت الـ400% العام الماضي، وحفاظها على سعر تداول قريب من السعر القياسي، حان دور أصحاب المليارات بالعملات المشفرة ليستكشفوا المقتنيات الفاخرة.
قفزة في مبيعات الأعمال الفنية
وفي هذا السياق، سجلت مبيعات الأعمال الفنية الرقمية قفزة جنونية في الآونة الأخيرة، محققة ارتفاعاً من 235 ألف دولار في فبراير 2020 إلى 63 مليون دولار في فبراير 2021، بحسب البيانات التي نشرها موقع Cryptoart.io الذي يتابع المبيعات في ستة دور مزاد. ولكن الجديد هذه المرة هو أن الفن، تماماً مثل العملات المشفرة، هو غير ملموس.
وتتمثل الميزة الرئيسية لشراء الفنّ الرقمي بدل الفنّ الملموس بحقيقة أن هذه الأعمال تأتي مع سجل يمكن التحقق منه بسهولة. ونعني بذلك التوكنات غير القابلة للاستبدال NFT التي تثبت ملكية العمل الفني وأصليته، انطلاقاً من مجموعة البلوك تشين blockchain العامة. فعند اختيار المشتري لعمل فني يراه على الشاشة بدل أن يعلقه على الجدار، لا يبقى من داع ليقلق من احتمال أن يكون العمل مزوراً.
وكان تزوير الأعمال الفنية قد أثقل كاهل حتى أكثر الأسماء لمعاناً في مجال تجارة الفنّ. فغاليري " كنويدلر" Knoedler Gallery في مانهاتن اضطر لإغلاق أبوابه في العام 2011 بعد مقاضاته لبيعه أعمالاً فنية بقيمة ملايين الدولارات، هي في الواقع أعمالاً مزيفة صنعتها عصابة تزوير في كوينز.
ولكن في حين يوفر الفنّ الرقمي ضمانة سلسلة الحيازة، إلا أنه لا يعد بأن يرضي أذواق مشتري الأعمال الفنية النموذجيين.
فمعظم الأعمال التي تقدمها الغاليريهات الالكترونية تعكس أهواء مستخدمي العملات المشفرة، إذ تتراوح بين الميمز والنكات والعملات. ويبدو أن "بيتكيون" و"إيثر" ومخترع "بلوك تشين إيثريوم" فيتاليك بوتيرين يشكلون مصادر الإلهام المفضلة، إن لم تكن المتكررة.
وبيعت في الأسبوع الماضي، الصورة المتحركة "نيان كات" التي تصور قطاً طائراً مع ذيل بألوان قوس قزح مقابل 300 إثير في المزاد، أي ما يوازي 600 ألف دولار. وكانت مجموعة من أعمال الفنان الرقمي مايك وينكيلمان الذي يعمل تحت الاسم المستعار Beeple قد بيعت مقابل 3.5 مليون دولار في ديسمبر. ويتوقع أن تباع مجموعة كولاج من أعماله بحوزة دار "كريستيز" مقابل مبلغ أكبر حتى.
وكانت صورة متحركة أخرى من وينكيلمان ولكن بصيغة "جي أي أف" GIF تحمل اسم "تقاطع طرق" أو Crossroad تظهر مارة يسيرون قرب جثة الرئيس السابق دونالد ترمب قد بيعت في السوق الثانوية يوم الأربعاء الماضي مقابل 6.6 مليون دولار بحسب السوق الالكتروني Gateway Nifty.
وتعليقاً على ذلك، قال دونكان كوك فوستر، الذي أسس Nifty Gateway بالتعاون مع توأمه غريفن إن "الكثير من الفنّ الملموس هو في الواقع مجرد شهادة أصالة".
وتناول دونكان منحوتة Fountain لمارسيل دوشامب كمثال. فهذا العمل الفني الذي يمثل مبولة مقلوبة ويصورها كنافورة للمياه، يمكن تكراره بسهولة، إلا أنه بقي مرغوباً جداً وذلك بسبب ارتباطه الواضح بدوشامب، أحد رواد الفن التصويري.
بالنسبة للفنانين الرقميين، فإن الـNFT ستمكّنهم أخيراً من تحقيق أرباح من أعمالهم عبر تحويل سلعة عامة إلى ملكية خاصة. فالـ"جي أي أف" الذي كان في الماضي ينسخ بكبسة زرّ بدون تمييزه عن النسخة الأصلية، بات بالإمكان اليوم التأكد من أصليته بكلّ سهولة.
جنون التوليب العصري
من جهتها، ترى الفنانة وخبيرة التكنولوجيا درو كاتاوكا أن المستقبل هو للفنّ الرقمي، وحذرت من أن مؤسسات عالم الفنّ تعرقل الفن المشفر كنوع فني فرعي بسبب "سوء فهمها العميق (والهادف) للفنّ الرقمي كأمر جديد، بل تنظر إليه على أنه هدية تقدم بغرض المزاح أو نوع من جنون التوليب العصري".
وقالت كاتاوكا في رسالة إلكترونية ، نتيجة هذا الوضع، "تعزى الفورة الجديدة في المزادات، بجزء كبير منها، إلى آباء من سكان الضواحي في منتصف العمر يحاولون بشدة أن يكونوا مثيرين، ولكن على الرغم من نيتهم الحسنة إلا أن تصرفهم يبدو مربكاً بشكل محرج".
وتتوفر الـNFT منذ نحو عقد من الزمن، وربما تشكل العملات الملونة، أي البتكوين في أول تداول لها في دفتر الحسابات، المثال الأول عنها. وبما أن أي شخص يقدر أن يرى أي عملات أتت من بلوك المنشأ genesis block، دعا البعض إلى تصنيفها كعملات نادرة.
ومع ذلك، لم يبدأ السوق بالازدهار إلا في الأشهر القليلة الماضية، مدعوماً بانخفاض معدلات الفائدة وارتفاع أسعار العملات المشفرة وسهولة استخدام المزادات على الانترنت، ما أسهم في تحفيز فورة الشراء. والآن بات لدى المتحمسين للعملات المشفرة وسيلة لتنويع أصولهم فيما يتباهون باستخدام جديد للتكنولوجيا التي أسهمت في تحقيقهم لثرواتهم.
وقال الجامع مجهول الهوية الذي ينشط تحت اسم WhaleShark والذي يعتقد أنه من أكبر مالكي الـNFT في العالم "أعتقد أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى هذه الفورة الكبيرة في الأسبوعين الماضي هو إدراك الناس أن هذا هو التطور الطبيعي للسوق". أمّا الـNFT الأثمن الذي امتلكه WhaleShark فأتى من منصة NBA Top Shot التي تزاوج ما بين شراء وبيع إصدارات مرقمة من مقاطع فيديو مميزة للاعبين من جهة والعملة المشفرة من جهة أخرى، ويتوقع بيعه مقابل ما يصل إلى مليون دولار.
6 ملايين متابع
ويبدو أن واحداً على الأقل من اليوتوبير المشهورين قد استفاد من هذه الفورة. ففي 19 فبراير، حقق لوغان بول أكثر من 5 ملايين دولار من خلال بيع عدد من الـ NFT التي تصوره مستوحاة من البوكيمون مقابل إيثر واحد لكلّ منها. ومن خلال ذلك، عرّف حوالي ستة ملايين من متابعيه إلى هذا السوق المزدهر.
وقالت تيفاني شونغ، الرئيسة التنفيذية لمنصة Islands التي تساعد المبتكرين على تحقيق الدخل من مشاهديهم إن "لوغان بول يساعد على تطبيع الـNFT".
وانضم أنتوني بومبالينو المناصر لبتكوين ومؤسس شركة "مورغان كريك للأصول الرقمية" Morgan Creek Digital Assets إلى هذه الموجة يوم الثلاثاء الماضي من خلال عرضه العمل الفني الرقمي "عشاء المبتكر" The Innovator’s Dinner للبيع في المزاد مقابل 639 إيثر (أي أكثر من مليون دولار بحسب السعر الحالي).
ويعيد العمل الفني ابتكار لوحة "العشاء الأخير" لدافنتشي من خلال استبدال السيد المسيح وتلاميذه بأشهر نجوم الصناعة وثقافة البوب أمثال ستيف جوبز وبيونسيه فيما يظهر مايكل جوردن وهو ينفذ سلام دانك في الخلفية.
وفي غضون ذلك، يحذر خبراء العملات المشفرة مثل مؤسس "كوين ميتركس" Coin Metrics نيك كارتر من أن السوق يواجه خطر الفوران.
وقال كارتر "صحيح أن السوق يبدو سطحياً ولكن ثمة نواة لفكرة جيدة وهي ستستمر في النموّ".
ولكن حتى لو انحسرت موجة الـNFT الفنية، إلا أنه تم إرساء الأسس من أجل المستقبل حين يتم تقديم المزيد من الأعمال على البلوك تشين.
وقال كارتر "في المستقبل، أتوقع أن تتجاوز الـNFT مجال الصور بصيغة PNG الموقعة وأن تنتقل نحو مجال التوكنات الأكثر إفادة، أي الأعمال الفنية الرقمية المرتبطة بفائدة حقيقية".