في أوقات عدم اليقين والتوتر، يعدُّ الدولار الأمريكي عملة الملاذ الآمن في العالم. لكنَّ صعوده المستمر خلال هذا الربع قد لا يكون مبرراً بالأسس الاقتصادية، والدولار الآن مبالغ فيه.
غالباً ما تكون فترة الصيف الحارة محدودة السيولة، لأنَّ أحجام التداول تنخفض عندما يذهب الناس في إجازاتهم؛ ويتعرَّض الموسم أيضاً لنوبات من الذعر عندما يحطم حدث إخباري مفاجئ لا مفرَّ منه هدوء العطلة. تتضمَّن قائمة الويلات لشهر أغسطس انتشار سلالة "دلتا" على مستوى العالم، وانتشار الخوف بشأن إمكانية التعافي من الوباء الذي بدت نهايته وكأنَّها وشيكة، وها هو الآن يدخل عملياً في نفق طويل. هذا المزيج البغيض يحافظ على عرض الشراء الإلزامي للدولار المقيَّم أصلاً بشكل كامل.
في غضون ذلك، تصدر اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة ضجيجاً بسبب إمكانية تخفيف برنامجها الشهري لشراء السندات البالغة 120 مليار دولار خلال الأشهر القليلة المقبلة. القلق الدائم بين المستثمرين في جميع أنحاء العالم، هو أنَّ التحفيز قد يتمُّ سحبه قبل أن يصبح الاقتصاد الأمريكي (الذي يعتمد عليه الجميع بطريقة ما) مكتفياً ذاتياً بالكامل. ليس من المستغرب أنَّهم يعتقدون أنَّه من الأفضل التوجُّه إلى الدولار الآمن، إذ يمكنهم البقاء بعيداً عن العاصفة المتخيَّلة.
ومع ذلك، هناك حدٌّ لمدى مساهمة هذه العوامل السلبية في قوة الدولار عندما تقوِّضه الظروف الاقتصادية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى.
يشير كيت جوكس، استراتيجي العملات في "سوسيتيه جنرال"، إلى أنَّ التضخم هو في الأساس مثار حديث على مستوى الدولة. فقد تضاعف مؤشر أسعار المستهلكين (باستثناء الغذاء والوقود) في الولايات المتحدة بأكثر من ثلاث مرَّات هذا العام ليصل إلى مستوى سنوي يبلغ 4.3%، في حين أنَّه ليس قريباً من هذا المستوى في الاقتصادات المتقدِّمة الأخرى. فمؤشر أسعار المستهلكين الأساسي في المملكة المتحدة عند 1.8%، ومقياس منطقة اليورو المكافئ هو عند 0.7%، والمؤشر المكافئ الياباني "سوبر كور" عند -0.6%. لا يمكن أن يكون التضخم الجامح مفيداً لأيِّ عملة، حتى لو كانت قوية مثل الدولار.
وفرة دولارية
يقاس مقياس النمو العالمي بأسعار السلع الصناعية كالنفط، والنحاس، وخام الحديد، من بين أمور أخرى. وكلها اتجهت نحو الأسفل، وخاصة السلعة الثالثة. وهذا يتعارض مع النمط المعتاد للدولار القوي، وهو ما ينعكس في ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وكل هذا غير منطقي بعض الشيء.
كان هناك ذكر أكثر من المعتاد لمخاطر الوباء في محضر الاجتماع الأخير للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة. وإذا أدت سلالة "دلتا" إلى عمليات إغلاق واسعة النطاق؛ فإنَّ احتمال حدوث أي خفض ذي مغزى في تحفيز الاحتياطي الفيدرالي يمكن أن يتبخَّر تماماً مرَّة أخرى. ومع بقاء أسعار الفائدة منخفضة، سيكون هناك سبب أقل لامتلاك الدولارات الصعبة، إذا لم يزدد الفرق مع العملات الأخرى.
في الواقع، أدى القلق بشأن كوفيد-19 إلى تغيير متأخِّر في الندوة السنوية لكبار المصرفيين المركزيين في العالم، إذ كان من المقرَّر عقدها في "جاكسون هول" يوم 26 أغسطس في ولاية وايومنغ. ستكون الآن هذه الندوة حدثاً افتراضياً بدلاً من الاجتماع بشكل شخصي الذي يجري تقليدياً في "منتزه غراند تيتون الوطني".
وحتى إذا كان هناك انخفاض في تدفُّق الشراء الشهري في الأشهر القليلة المقبلة؛ فإنَّ كمية السندات الموجودة في النظام تظلُّ عند مستويات قياسية، مع ارتفاع الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي إلى الأعلى بمقدار 8 تريليون دولار. وهذه أموال كبيرة موجودة في النظام، مما يعني أنَّ قيمة العملة يجب أن تكون أقل وليست أعلى. لم يعد هناك أي نقص في الدولار كما كان الحال في ربيع عام 2020. والمسؤول عن ذلك هو المقايضات الضخمة للعملات مع البنوك المركزية الأجنبية، والتيسير الكمي الهائل المستمر.
ما يزال من غير المحتمل رفع سعر الفائدة -الذي من شأنه أن يجعل الدولار أكثر قيمة- حتى عام 2023. ومع انعقاد "جاكسون هول" افتراضياً بسبب مخاوف الفيروس، يظلُّ الاحتمال مرتفعاً في أن يقوم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول بتأجيل اتخاذ أي قرارات تتعلَّق بالسياسة إلى حين اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة القادم في 23 سبتمبر. وفي كلتا الحالتين؛ هناك ببساطة فجوة زمنية كبيرة جداً بين أيِّ خفض تدريجي محتمل للتيسير الكمي، ومعدل سعر الفائدة التي يتمُّ رفعها فعلياً بما يكفي لتبرير المزيد من التحوُّل عن اليورو، أو العملات الأخرى المتأخرة خلال عملية الحد من التحفيز.
علاوة على ذلك، من المؤكَّد أنَّ الدولار الأقوى لا يتوافق مع عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات عند 1.23% التي انخفضت بمقدار 50 نقطة أساس منذ بداية إبريل، في حين تشهد علاوة فارق العائد تضيُّقاً مقابل أسواق السندات العالمية الأخرى.
وليس من المنطقي أن يستمر الدولار في الثراء. في النهاية سيتمكَّن المنطق من اللحاق به. فلا ينبغي أن يؤدي كل شيء في كل وقت إلى ارتفاع الدولار. فسعره مبالغ فيه، وحان الوقت لعودته إلى المتوسط.