يُعد سوق الخزانة الأمريكية ركيزةً أساسيةً للتمويل العالمي، حيث يوفر السيولة للحكومة، ويُنظر إليه كملاذ آمن لتخزين الأموال، ومعياراً لأسعار الفائدة في كل مكان. ولكن في العديد من المناسبات الأخيرة، تعطلت هذه السوق المهمة، مما أثار قلق المستثمرين وألقى بظلال من الشك على موثوقية النظام المالي الأمريكي.
من هذا المنطلق، اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هذا الأسبوع خطوة مهمة نحو حل المشكلة. بالطبع هذه أخبار جيدة، ولكن يجب فعل المزيد.
يمول المستثمرون المتمرسون عادةً حيازاتهم من الخزانة في سوق "إعادة الشراء" باستخدام الدين الحكومي كضمان للقروض قصيرة الأجل من سماسرة الأوراق المالية، وكثير منهم تابعون للبنوك الكبيرة. على الرغم من ذلك، تجاوز العرض المتزايد للديون الحكومية الأمريكية حجم التمويل المتاح في السنوات الأخيرة. وقد ساهمت هذه الثغرة، على سبيل المثال، في اضطراب سوق الخزانة مما أسهم في زعزعة استقرار النظام المالي في بداية أزمة فيروس كورونا الربيع الماضي، مما أجبر الاحتياطي الفيدرالي على توفير تريليونات الدولارات من السيولة الطارئة.
أما الآن، فالمساعدة في الطريق. حيث أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي عن تسهيلات إعادة الشراء الدائمة بقيمة 500 مليار دولار، مما يعني أن البنك المركزي سيكون على استعداد لإقراض مجموعة مختارة من المتعاملين "الأساسيين"، مقابل ضمانات سندات الخزانة وبعض الأوراق المالية المضمونة من الحكومة. كما أتاح تسهيلات مماثلة دائمة للبنوك المركزية الأجنبية. حيث سيتقاضى كلاهما سعر فائدة أعلى من أسعار السوق العادية، لضمان استخدامها فقط عند الضرورة القصوى.
تحرك قادم
وفي الحقيقة، فإن المزيد من التحركات قادمة على الأرجح. أولاً، أتوقع أن يغير بنك الاحتياطي الفيدرالي الطريقة التي يحسب بها نسبة الرافعة المالية التكميلية، والتي تتطلب من البنوك الحفاظ على حد أدنى من رأس المال كنسبة مئوية من إجمالي الأصول. وفي الآونة الأخيرة، أصبح هذا المطلب- الذي يُقصد به أن يكون بمثابة دعامة لقواعد رأس المال الأخرى- أكثر إلزاما،ً حيث عززت جهود التحفيز التي يبذلها بنك الاحتياطي الفيدرالي الاحتياطيات النقدية لدى البنوك، والتي تُعد خالية تماماً من المخاطر إلا أنها تُعتبر أصولاً. وقد أدى هذا بدوره إلى الحد من رغبة البنوك في توفير التمويل لسندات الخزانة - ويمكن أن يحد من استعدادها لاستخدام تسهيلات إعادة الشراء الدائمة في أوقات الشدة. ومع بعض التغييرات المتواضعة، يمكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي إزالة القيد الإشكالي دون تقليل المبلغ الإجمالي لرأس المال الذي يجب على البنوك أن تضمن سلامته وصحته.
بالطبع فإن هذه الإصلاحات هي موضع ترحيب، إلا أنها لا تفي بالغرض. وهناك حاجة إلى تغييرات أوسع لضمان الأداء السلس لسوق الخزانة، كما تجادل مجموعة عمل من مجموعة الثلاثين (التي أنا عضو فيها) في ورقة جديدة.
إصلاحات ضرورية
أولاً، يجب على الاحتياطي الفيدرالي توسيع نطاق الوصول إلى تسهيلات إعادة الشراء الدائم بما يتجاوز المتعاملين الأساسيين. وهذا من شأنه أن يوفر دعامة تمويلية لمجموعة أوسع من مستثمري الخزانة، مما يترك السوق بأكملها أقل عرضة لقيود الميزانية العمومية للبنوك ومتعاملي الأوراق المالية. وهكذا يصبح ضمان السيولة من بنك الاحتياطي الفيدرالي سمة من سمات سندات الخزانة المالية، بدلاً من أن يصبح منفعة تعود إلى مجموعة فرعية مميزة من المشاركين في السوق. وقد تكون النتيجة انخفاض تكاليف الاقتراض للحكومة الأمريكية.
الجدير بالذكر أن إحدى الحجج المضادة هي أن ضمان السيولة من شأنه أن يشجع المستثمرين على تحمل مخاطر ضخمة. إلا أن مشكلة الخطر الأخلاقي هذه طفيفة مقارنة بالمنافع، ويمكن تخفيفها من خلال طلب ضمانات وافرة لتغطية أية خسائر ناجمة عن تغيرات الأسعار (لا توجد مخاطر ائتمانية ذات صلة، لأن الضمان هو التزام من حكومة الولايات المتحدة). كما أن التدخلات الطارئة المخصصة، مثل ما حدث أثناء الجائحة، هي التي تخلق خطراً أخلاقياً خطيراً. ويمكن أن يؤدي وجود مساندة دائمة إلى تفادي الحاجة إلى مثل هذه التدابير غير العادية.
ثانياً، يجب إجراء المزيد من صفقات الخزانة من خلال الأطراف المقابلة المركزية، والتي تقف بين المشتري والبائع وتضمن تسليم الضمانات والنقد والأوراق المالية. حيث سيساعد هذا في تقليل المخاطر لأنه بالنسبة لكل مشارك، فإن الالتزامات الثنائية عبر الأطراف المقابلة المتعددة ستنهار إلى التزام واحد للطرف المقابل المركزي؛ كما سيسهل تداول "الكل للجميع"، حيث لن يضطر المستثمرون إلى الوصول إلى سوق الخزانة من خلال المتعاملين؛ مع العلم بأن هذا لن يكون سهلاً، حيث إن إنشاء غرفة مقاصة مناسبة للخزانة سيكون أمراً مكلفاً، وسيصبح كياناً جديداً مهماً للنظام، وقد يواجه معارضة من المتعاملين الراسخين.
ثالثاً، يجب أن يكون سوق الخزانة أكثر شفافية، مع الإبلاغ عن التداولات لحظياً - كما هو الحال بالفعل في أسواق الأسهم وسندات الشركات. حيث سيساعد ذلك في جعل السوق أكثر كفاءة، وسيساعد المشاركين في السوق والمنظمين على تقييم ظروف السوق والمخاطر المحتملة. علاوةً على ذلك، فإنه سيؤثر أيضاً على مزايا شاغلي المناصب الذين يتمتعون حالياً بمزايا تتعلق بالحصول على المعلومات - لذا أتوقع معارضة هنا أيضاً.
مما لا شك فيه أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تأخذ تفوق سوق الخزانة كأمر مسلم به. وللحفاظ عليه، هناك حاجة إلى إصلاحات طموحة؛ وقد بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي بداية جيدة، وليستمر على هذا الدرب.