تواجه الصين خطر عودة التوترات وحالة عدم اليقين تكراراً لما شهدته خلال الولاية الأولى لدونالد ترمب، ولكن هذه المرة في ظل اقتصاد أضعف يعتمد بشكل أكبر على الصادرات مقارنة بما كان عليه الحال أثناء الحرب التجارية الأميركية الصينية الأولى.
بلغ الفائض التجاري للصين العام الماضي مستوى قياسياً يقترب من تريليون دولار، وهو ما يعادل أكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي، في أعلى مستوى منذ 2015. وشكل هذا الفائض حوالي ثلث النمو الاقتصادي في العام الماضي، وهي النسبة الأعلى منذ 1997، وفقاً لبيانات صادرة الأسبوع الماضي.
ضعف الاقتصاد الصيني
يعكس هذا الاعتماد المتزايد على الأسواق الخارجية تحديات كبيرة يواجهها الرئيس الصيني شي جين بينغ، بما فيها الانكماش المستمر، وضعف الطلب الاستهلاكي، أزمة ممتدة في قطاع العقارات، وضغوط على العملة المحلية اليوان. وتشير عوائد السندات إلى أن الأسواق تتوقع مزيداً من التراجع في ثاني أكبر اقتصاد حول العالم.
اقرأ المزيد: ترمب يدخل البيت الأبيض بعد أيام فكيف استعدت الصين؟
لمواجهة هذه الضغوط، من المرجح أن تستمر بكين في زيادة الاقتراض الحكومي العام الجاري لدعم هدف طموح للنمو الاقتصادي. ولكن تصاعد الحمائية التجارية في الولايات المتحدة الأميركية وشركاء تجاريين رئيسيين آخرين قد يهدد أحد أكثر محفزات النمو الاقتصادي التي تعتمد عليها الصين.
ناقش ترمب وشي عبر محادثة هاتفية الجمعة قضايا عدة من بينها التجارة وتايوان وتطبيق "تيك توك"، مع استعداد الأول للعودة إلى البيت الأبيض. وصف الرئيس الأميركي المنتخب المكالمة بأنها "جيدة للغاية"، لكن إدارته المقبلة أوضحت أنها تعتزم مواصلة الضغط بقوة على بكين في قضايا التجارة، بما فيها استخدام الرسوم الجمركية. في سياق منفصل، أشارت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية الحكومية إلى أن ترمب أعرب عن استعداده لزيارة الصين في وقت مبكر من ولايته الثانية.
قالت جاكلين رونغ، كبيرة خبراء الاقتصاد الصيني في بنك "بي إن بي باريبا: "كانت أبرز نقاط القوة في الاقتصاد الصيني العام الماضي هي الصادرات. وهذا يعني أن أكبر تحد العام الحالي سيكون الرسوم الجمركية الأميركية".
خطر توسع الحواجز التجارية
أضافت رونغ الأسبوع الماضي أن السيناريو الأساسي من وجهة نظر "بي إن بي باريبا" يفترض أن ترمب سيُقر رسوماً جمركية تبلغ 10% على البضائع الصينية. رغم ذلك، لم يتضح بعد ما إذا كان الاتحاد الأوروبي والأسواق الناشئة ستتخذ خطوات مشابهة بزيادة الحواجز التجارية ضد الصين.
بعد فوزه بالانتخابات خلال نوفمبر الماضي، أعلن ترمب عزمه رفع الرسوم الجمركية على جميع الواردات الأميركية من الصين 10% فوق الرسوم الحالية. في أوقات أخرى، ألمح إلى إمكانية فرض معدلات أعلى على البضائع الصينية بمجرد توليه المنصب اليوم.
اقرأ المزيد: شي أكثر استعداداً لمواجهة ترمب رغم مخاوف الفوضى التجارية في الصين
في استجابة لهذه التصريحات، سارعت الشركات إلى تخزين البضائع، ما أدى إلى زيادة المشتريات من الصين خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي، ما قد يسفر عنه طلب أقل العام الجاري. صدرت الشركات الصينية ما يقارب 50 مليار دولار من البضائع إلى الولايات المتحدة في ديسمبر الماضي، ما يعد أعلى إجمالي شهري تحقق منذ منتصف 2022. ومن المتوقع أن تشهد التجارة تباطؤاً مع حلول عطلة رأس السنة القمرية الصينية بوقت لاحق من الشهر الحالي.
تنويع التجارة جزئياً
دفعت الرسوم الجمركية الأميركية خلال السنوات السبع الماضية بعض الشركات إلى نقل مصانعها خارج الصين أو البحث عن مصادر أخرى. وتراجعت نسبة مشتريات الشركات الأميركية من الصادرات الصينية المباشرة إلى أقل من 15% مقارنة بـ 19% نهاية 2017.
رغم الآمال بأن تعود بعض أنشطة التصنيع إلى الولايات المتحدة، فإن معظمها اتجه إلى أسواق مثل فيتنام، التي تسجل الآن شحنات قياسية من المكونات الإلكترونية الصينية لتجميعها في منتجات تُصدر إلى أميركا ودول أخرى.
اقرأ أيضاً: حرب ترمب التجارية تصعّب مهمة الصين بالوصول للنمو المستهدف
قفزت صادرات الصين إلى فيتنام إلى مستوى قياسي العام الماضي، كما ارتفعت شحنات فيتنام إلى الولايات المتحدة إلى أرقام غير مسبوقة. وبالنظر إلى موازين التجارة الثنائية، أصبحت فيتنام صاحبة ثالث أكبر فائض تجاري مع الولايات المتحدة، بعد الصين والمكسيك.
رغم تراجع الأهمية النسبية للصادرات الصينية المباشرة إلى واشنطن خلال السنوات الأربع الماضية، فإن الاقتصاد الأميركي ما يزال يمثل أهم مصدر للطلب النهائي على المنتجات الصينية، أذ اشترى ما يزيد على نصف تريليون دولار من السلع العام الماضي، ما يعادل نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي للصين.
تؤكد أبحاث جديدة من "بلومبرغ إيكونوميكس" أنه رغم ما تشير إليه تقارير من الجانبين عن تنويع تجارتهما بعيداً عن بعضهما بعضاً، تظل الولايات المتحدة الوجهة الأكبر على الإطلاق للقيمة المضافة للصناعات التحويلية الصينية.
العقوبات والرسوم الجمركية
في حال فرضت الولايات المتحدة رسوماً جديدة على الصين، يمكن لبكين الرد بفرض رسوم جمركية من جانبها، كما فعلت سابقاً. كما أن الحكومة الصينية طورت أدوات انتقامية جديدة، مثل الحظر الأخير على تصدير بعض المعادن إلى الولايات المتحدة وفرض عقوبات على أكثر من 10 شركات دفاع أميركية خلال الشهر الماضي.
قال أليكس كابري، مؤلف كتاب "التكنولوجيا - القومية: كيف تعيد تشكيل التجارة والجغرافيا السياسية والمجتمع" (Techno-Nationalism: How It’s Reshaping Trade, Geopolitics and Society): "ستصبح جهود الصين أكثر قوة فيما يتعلق بضوابط التصدير. النمو القوي الذي شهدته خلال 2024 رغم القيود الأميركية على الصادرات قد يمنحها الثقة لتطبيق مزيد من القيود على الصادرات الخاصة بها، لا سيما في المعادن الحيوية والمغناطيس والبطاريات وبضائع أخرى".
اقرأ المزيد: هذه توقعات المؤسسات المالية العالمية لمخاطر حرب ترمب التجارية
تسعى الحكومة الصينية إلى تقليل شراء السلع الأساسية من الولايات المتحدة وزيادة الواردات من دول مثل البرازيل وروسيا وغيرها من الدول الصديقة، ضمن جهود طويلة الأمد لتنويع العلاقات التجارية. يشمل ذلك توقيع اتفاقيات تجارية مع دول جنوب شرق آسيا وإنشاء أكبر منطقة حرة معفاة من الرسوم الجمركية في العالم. رغم أن ذلك يقلل من التعرض الصيني لأميركا، فإنه قد يجعل الرد الانتقامي الصيني من خلال فرض رسوم على البضائع الأميركية أقل تأثيراً مما كان عليه في المرة السابقة.
قد تحاول الشركات الصينية تصدير المزيد من البضائع إلى أسواق أخرى لتعويض فقدان المبيعات في السوق الأميركية، لكن لا توجد ضمانات بأن الدول الأخرى لن تفرض حواجز جمركية خاصة بها إذا ارتفعت الواردات فجأة. على سبيل المثال، فرضت دول في أميركا الجنوبية رسوماً على واردات الصلب الصيني.
رسوم جمركية في أميركا الشمالية
دفعت عودة ترمب المكسيك إلى التدخل في هذا الصدد، إذ فرضت الرئيسة كلوديا شينباوم رسوماً جمركية تهدف إلى الحد من الاعتماد على الواردات الصينية، في محاولة لثني ترمب عن فرض ضريبة استيراد 25% على البضائع القادمة من بلادها.
تتخذ دول أخرى خطوات دفاعية مبكرة، منها كندا، التي أعلنت في سبتمبر عن فرض رسوم جديدة على السيارات الكهربائية والمعادن المصنعة في الصين. كما فرض كل من الاتحاد الأوروبي وتركيا رسوماً على السيارات الكهربائية الصينية.
اقرأ أيضاً: "ماكواري": حرب ترمب التجارية تهدد بخفض الناتج المحلي الصيني 2%
في نهاية المطاف، قد يكون التركيز على الاقتصاد المحلي وزيادة الاستهلاك الداخلي لتعويض الطلب المفقود من الحرب التجارية مع الولايات المتحدة هو الأداة الأكثر فعالية بيد بكين.
اختتم مارتن كورزيمبا، باحث أول في معهد "بيترسون" للاقتصاد الدولي في واشنطن: "تعد التدابير المالية، التي كانت محافظة للغاية حتى الآن، الخيار الأكثر منطقية، لا سيما مدفوعات الأسر التحفيزية لتعزيز الاستهلاك المحلي".