بين آمال الانتعاش وتحديات الواقع، يقف الاقتصاد المصري مع بداية 2025 أمام مفترق طرق، ففي الوقت الذي تسعى فيه البلاد لتحقيق النمو، تستمر أزمات انخفاض العملة المحلية وارتفاع التضخم والفائدة في تعقيد المشهد الاقتصادي.
تشير التوقعات جميعها إلى استمرار تراجع الجنيه المصري ليصل إلى مستويات 54 جنيهاً للدولار خلال العام المقبل، ليظل ذلك التحدي الأكبر أمام التضخم وتحركات الفائدة في البلاد وعدم استقرار الأسواق المالية، بحسب 12 من مُديري الاستثمار والمحللين الاقتصاديين الذين تحدثوا مع "الشرق".
تعرّض الجنيه المصري لضغوط خلال الأسابيع القليلة الماضية ليقفز الدولار إلى مستوى قياسي قرب 51 جنيهاً مسجلاً أدنى مستوياته على الإطلاق، ما يسلط الضوء على مدى مرونة سعر الصرف التي تشكل إحدى ركائز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. كان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قال إن تحرك العملة صعوداً ونزولاً في حدود 5% أمر طبيعي وفق حركة الطلب على الدولار، مرجحاً استمرار تلك الحركة في الفترة المقبلة.
بحسب استطلاع أجرته "الشرق" الشهر الجاري مع بنوك الاستثمار، تتجه التوقعات أن يبدأ البنك المركزي المصري نهج سياسة خفض أسعار الفائدة في الربع الأول من العام المقبل، مع تباين الآراء حول نسب الخفض المتوقعة. رجحت الغالبية خفض أسعار الفائدة بما يتراوح بين 300-400 نقطة أساس خلال 2025 بأكمله، فيما توقعت آراء أخرى أكثر جرأة خفضها بما بين 800-1000 نقطة أساس.
عقب تحرير سعر الصرف في مارس الماضي، رفع المركزي المصري الفائدة 8 نقاط مئوية، ثم أبقى عليها دون تغيير في آخر 5 اجتماعات عند مستوياتها المرتفعة البالغة 27.25% للإيداع و28.25% للإقراض. تعقد لجنة السياسة النقدية اجتماعها الأخير لهذا العام في 26 ديسمبر الجاري.
هدوء التضخم
بخصوص التضخم، تميل آراء المشاركين في الاستطلاع إلى أنه يتحرك في مسار هبوطي واضح، خاصة في الربع الأول من العام المقبل، مقارنةً بسنة الأساس التي شهدت مستويات تضخمية مرتفعة، على أن يستكمل هذا المسار نزولاً إلى مستوى 20% بنهاية العام.
وتيرة التضخم في مدن مصر تباطأت في نوفمبر لتسجل أدنى مستوى لها منذ نهاية 2022 وتصل إلى 25.5% على أساس سنوي، مقارنةً مع 26.5% في أكتوبر، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة مطلع ديسمبر الجاري.
حازم بركات، رئيس شركة "بي إنفستمنتس القابضة"، يتوقع أن تنخفض قيمة العملة المحلية أمام الدولار خلال العام القادم بنسب تتراوح بين 7% إلى 10% لتتداول دون عتبة 55 جنيهاً، ما قد يُشكّل ضغوطاً تضخمية إضافية. ونتيجة لذلك، قد يتجه المركزي المصري لخفض أسعار الفائدة على استحياء خلال العام بنسب تتراوح بين 2% إلى 3% مدفوعاً بخفض البنوك المركزية في الدول الكبرى للفائدة، والذي ينعكس تأثيره على سعر الفائدة محلياً.
ورجح بركات أن تتراجع معدلات التضخم خلال العام إلى 20%، حال انخفاضها عالمياً، مضيفاً أن استقرار المشهد الداخلي وعدم اتخاذ قرارات برفع الدعم عن السلع والخدمات عوامل من شأنها أن تحد من قفزة في معدلات التضخم.
لجأت الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة إلى تقليص الدعم عن الكثير من الخدمات والسلع الرئيسية، في محاولة لتقليل العجز، وعدم عودة أزمة شُح الدولار. رفعت البلاد منذ يوليو الماضي أسعار البنزين والسولار وتذاكر القطارات ومترو الأنفاق، لتتبعها زيادات في أسعار كثير من السلع والخدمات الأخرى، كان آخرها خدمات الاتصالات.
محمد أبو باشا، كبير الاقتصاديين في قطاع البحوث في "إي إف جي" القابضة، توقع أن يتجه البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة بمقدار 5% على مدار العام القادم، وذلك بعد التأكد من انخفاض مستويات التضخم بشكل ملموس ومستدام خلال الربع الأول من العام.
يرجح أن يشهد التضخم اتجاهاً هبوطياً واضحاً خلال 2025، خاصة في الربع الأول مقارنة بسنة الأساس التي شهدت مستويات سعرية قياسية، على أن يستمر التراجع طوال العام نحو مستويات تتراوح بين 20% و22%. وبالتوازي مع التراجع المتوقع للتضخم، قد يتجه البنك المركزي لخفض سعر الفائدة في فبراير القادم، ليصل إجمالي الخفض إلى 4% للعام بأكمله، بحسب أحمد أبو السعد، الرئيس التنفيذي لشركة "أزيموت مصر للاستثمار".
أبو السعد، توقع تذبذب سعر الجنيه المصري خلال العام بين مستويات 46 – 53 جنيهاً أمام الدولار الأميركي، حسب الضغوطات التي يواجهها الاقتصاد المصري.
خفض الفائدة
توقعات المحللين تأتي في وقت خفضت شركة "فيتش سوليوشنز" توقعاتها لنمو الاقتصاد المصري للسنة المالية الحالية من 4.2% إلى 3.7%، نتيجة للأداء الأضعف من المتوقع في الربع الأخير من السنة المالية السابقة، واستمرار تراجع حركة الملاحة في قناة السويس، ووسط تحديات جيوسياسية، وضغوط اقتصادية داخلية مستمرة.
محمود خليفة، رئيس قطاع الاستثمار المباشر بشركة "سي آي كابيتال"، رجح أن يبدأ البنك المركزي في مسار الخفض التدريجي لأسعار الفائدة بدءاً من الربع الثاني بعد انتهاء موسم رمضان، والذي عادةً ما يشهد زيادة كبيرة في الطلب على الدولار لاستيراد المنتجات الغذائية. وقدّر أن يصل إجمالي نسبة الخفض 4% بنهاية العام.
أما عن مستويات التضخم، فيتوقع خليفة أن تتراجع تدريجياً خلال العام وصولاً إلى مستوى 20% بنهايته، "شريطة استمرار جهود الدولة في تعزيز مواردها الدولارية للحفاظ على استقرار قيمة الجنيه أمام الدولار"، وأوضح أن انخفاض قيمة العملة المحلية سيبقى المؤثر الأكبر لمعدلات التضخم وقرارات خفض الفائدة.
تأجيل تحريك أسعار الوقود
يرى حازم كامل، الرئيس التنفيذي لقطاع الاستثمار المباشر بشركة "إن آى كابيتال" الذراع الاستثماري لبنك الاستثمار القومي، أن أسعار الفائدة قد تبدأ في الانخفاض التدريجي بدايةً من الربع الثاني 2025. وأشار إلى أن تقديراته تتجه إلى أن إجمالي الخفض سيتراوح بين 3% إلى 6%، وذلك وفقاً لتباطؤ معدلات التضخم خلال العام، والتي قد تشهد تراجعاً واضخاً مقارنة بسنة الأساس، على الأخص في الربع الأول من 2025. ورأى أن تأجيل الحكومة المتوقع لتحريك أسعار الوقود والطاقة سيساعد في استمرار تراجع التضخم ليصل إلى ما دون 20% في الربع الثالث من 2025.
مصطفى الشنيطي، الشريك التنفيذي ورئيس قطاع بنوك الاستثمار في "زيلا كابيتال"، يرى أن سعر الصرف سيتأثر كثيراً بالمتغيرات الجيوسياسية الإقليمية التي تضغط على اقتصاد مصر، وأوضح أنها قد تزيد من الضغط على قيمة العملة المحلية لتتراجع تدريجياً أمام الدولار حتى مستوى 55 جنيهاً خلال النصف الأول من العام القادم، و"قد يمتد التراجع حتى 58 جنيهاً بنهاية العام".
الشنيطي كان أكثر جرأة حيث توقع أن يقبل البنك المركزي على خفض سعر الفائدة بما يتراوح ما بين 6 و8 نقاط مئوية، وهو ما سيتحدد بشكل أكثر وضوحاً وفقاً لتطورات الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
يجري صندوق النقد الدولي في الوقت الحالي مراجعته الرابعة ضمن برنامج تمويل مصر الموسع البالغ حجمه 8 مليارات دولار، وفي حال استكمال هذه الجولة من المراجعات ستتمكن مصر من صرف شريحة بقيمة 1.3 مليار دولار، والتي تُعد الأكبر بين مختلف الشرائح. أشارت بعثة الصندوق إلى "إحراز تقدم كبير" في المناقشات مع الحكومة.
توقعات الشنيطي تأتي متوافقة مع تقديرات يوسف الفار، العضو المنتدب لشركة "النعيم القابضة للاستثمارات"، حيث يرى أن أسعار الفائدة ستنخفض بمقدار 5% إلى 10% خلال العام المقبل، مدعومة بالتراجع المتوقع لمعدلات التضخم بدءاً من الربع الثاني لتصل إلى ما دون 20% بنهاية العام الجاري، وربما أقل من 15%.
وبخصوص سعر صرف العملة المصرية، أوضح الفار أن حركة الجنيه أمام الدولار خلال عام 2025 مرهونة بحزمة متغيرات خارجية وداخلية. وأشار إلى أن العامل الخارجي، والذي ستحدده قرارات الجمارك الأميركية والتي قد تصب في صالح الدولار أمام العملات الأخرى، سيكون له التأثير الأكبر وقد يُضعف الجنيه بنسبة 7% إلى 10% أمام العملة الأميركية.
تأثير قرارات ترمب
ماجد شوقي، رئيس مجلس إدارة "كاتليست بارتنرز ميديل ايست"، يتفق مع الآراء السابقة فيما يتعلق بأسعار الفائدة بالسوق المصرية خلال العام القادم، حيث يتوقع أن تشهد انخفاضاً بنسب تتحدد وفقاً لتباطؤ معدلات التضخم، وأسعار الصرف.
وقال إن حركة العملة المحلية أمام الدولار قد تشهد تراجعاً بنسب طفيفة، في ظل المؤشرات الاقتصادية الجيدة، وانخفاض أسعار الفائدة بالاقتصاديات الأجنبية.
قد يشهد عام 2025 المزيد من الضغوط التضخمية، وذلك منذ بدايته والتي ستشهد زيادة في الطلب على الدولار بسبب استيراد المنتجات الرمضانية، ما قد يدفع الجنيه المصري لمزيد من التراجع أمام الدولار لمستوى 54 جنيهاً، بحسب إيهاب رشاد، نائب رئيس شركة "مباشر كابيتال هولدنج للاستثمارات المالية". وتوقع أن يشهد منتصف العام زيادات جديدة في أسعار المحروقات، وهو ما قد يجبر المركزي لتأجيل قرار خفض الفائدة إلى النصف الثاني، ليكون إجمالي الخفض بين 300 و400 نقطة أساس لعام 2025.
من جانبه أعتبر أحمد أبو حسين، رئيس مجلس إدارة شركة "كايرو كابيتال سيكيورتيز" لتداول الأوراق المالية، أن إجمالي خفض أسعار الفائدة خلال عام 2025 سيكون بين 2% إلي 3%، مشيراً إلى أن المركزي سيستهدف من خلال هذه الخطوة تقليل تكاليف الاقتراض لتشجيع الشركات على توسيع أنشطتها الاستثمارية.
وفي نفس الاتجاه، يتوقع عمرو الألفي، رئيس استراتيجيات الأسهم في "ثاندر لتداول الأوراق المالية"، أن تشهد أسعار الفائدة انخفاضاً تدريجياً خلال العام المقبل لتصل إلى 6% للعام بأكمله تماشياً مع خفض أسعار الفائدة الأميركية. ورأى أن المركزي سيخفض الفائدة بمقدار 2% في الربع الأول، على أن يكون خفض نسبة 4% بشكل تدريجي حتي نهاية العام، مدعومة بتوقعات تباطؤ التضخم إلى 19% للعام القادم، مقابل متوسط 29% في 2024، بحسب الألفي الذي قدّر تراجع الجنيه إلى 58 أمام الدولار بنهاية العام المقبل.
رغم اتفاق المحللين السابقين إلا أن توقعات هاني توفيق، الخبير الاقتصادي، تخالف الجميع، حيث يقول: "وفقاً للتحديات الاقتصادية الراهنة ستستمر وتيرة تراجع الجنيه أمام الدولار خلال العام المقبل لتصل إلى مستويات ما بين 60 و70 جنيهاً لتشكل ضغوطاً تضخميةً قد تصعد بمستويات التضخم إلى نطاق 35% وحتى 40%، مع استقرار أسعار الفائدة عند 30%.
لكن توفيق أوضح أن تلك التوقعات قد تأخذ منعطفاً آخر حال تغير سياسة الدولة أو بيع أراضٍ جديدة تجعل تلك الأرقام أكثر تفاؤلاً.
خفض توقعات النمو
وفي وقت لاحق، ناقش برنامج "شرق غرب" على قناة "الشرق" آفاق الاقتصاد المصري في عام 2025"، مستعرضاً عدد من النقاط الرئيسية التي ساهمت في تراجع توقعات النمو الاقتصادي خلال العام المالي الجاري "2024-2025" أبرزها:
- إشكالية التدفقات النقدية الدولارية.
- تراجع حركة النقل في قناة السويس.
- سياسة التشديد النقدي أدت في النصف الثاني إلى الأنشطة في البلاد مدفوعة بارتفاع تكلفة التمويل.