عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، تُظهر لمحة من البيانات الصادرة حديثاً أن الفائز سيرث اقتصاداً نشطاً، مدفوعاً باستمرار إنفاق المستهلكين رغم معاناة على مدى سنوات من الأسعار وأسعار الفائدة المرتفعتين.
نما الاقتصاد الأميركي بوتيرة قوية في الربع الثالث من السنة الجارية، ليواصل عدة أعوام من النمو القوي، وبقي معدل البطالة في الولايات المتحدة منخفضاً، ما يكشف ابتعاده عن الركود الذي توقعه خبراء اقتصاد لفترة طويلة.
رغم ذلك، جميع الأخبار ليست إيجابية. تباطأ نمو الوظائف إلى أضعف مستوى له منذ 2020 أكتوبر الماضي، في شهر تأثر سلبياً بشدة جراء أعاصير عاتية وإضراب عمالي كبير، كما أن الطريق نحو انخفاض التضخم في الولايات المتحدة ما يزال مليئاً بالعقبات. في الوقت نفسه، لم يعد الأميركيون قادرين على تحمل تكاليف الملكية العقارية في ظل أسعار فائدة وأسعار رهن عقاري باهظتين.
أداء جو بايدن الاقتصادي
عانى الناخبون لفترة طويلة من الإحباط بسبب الاقتصاد تحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، إذ شهدت البلاد أسوأ معدلات تضخم منذ جيل، وأزمة في القدرة على تحمل تكاليف الإسكان، وبعض أعلى أسعار الفائدة خلال عقود. في المقابل، تراجعت ضغوط الأسعار بسرعة نادرة، ناهيك عن حدوث ذلك دون التسبب في ركود في الاقتصاد الأميركي.
يظهر ما يعرف بمؤشر البؤس، الذي يجمع بين معدل التضخم ومعدل البطالة، أن الأميركيين ينبغي ألا يكونوا بائسين على الإطلاق. فهذا المؤشر الشائع الخاص بقياس الرفاهية عند مستوى أقل من أي سنة انتخابية حديثاً، باستثناء 2016.
من الصعب إيصال هذه الرسالة لنائبة الرئيس كامالا هاريس، التي حاولت الإشادة بانتصارات الإدارة في الوقت الذي تخاطب فيه الناخبين حول طريقة اختلافها عن رئيسها. قال الرئيس السابق دونالد ترمب عن منافسته إنها تشرف على "أسوأ اقتصاد في حياتكم" في سعيه للفوز بالانتخابات للعودة إلى البيت الأبيض، لكن النمو ما يزال مستمراً.
إليكم المشهد الأخير للاقتصاد الأميركي مع اقتراب يوم الانتخابات:
سوق العمل
زاد عدد الوظائف غير الزراعية بمقدار 12 ألف وظيفة فقط الشهر الماضي، متأثراً بالإعصارين هيلين وميلتون بالإضافة إلى إضراب عمالي في شركة "بوينغ". لكن التوظيف خلال الشهرين السابقين كان أضعف مما كان يُعتقد سابقاً، ما يدل على أن سوق العمل ما زالت تتباطأ بخلاف العوامل المؤقتة.
بدأت سوق العمل تفقد تدريجياً القوة غير المستدامة التي اكتسبتها خلال فترة التعافي بعد وباء كورونا، ولكن خبراء الاقتصاد بالتأكيد لن يصفوه بالضعف حيث أن معدل البطالة، رغم ارتفاعه قليلاً في الأشهر الأخيرة، لا يزال منخفضاً تاريخياً، وربما يفوق نمو الأجور التضخم لأكثر من سنة. ما زال أيضاً أرباب العمل يحاولون العثور على موظفين لأكثر من 7 ملايين وظيفة شاغرة.
بينت لورين جودوين، خبيرة الاقتصاد ورئيسة وحدة استراتيجية الأسواق في "نيويورك لايف إنفستمنتس" (New York Life Investments): "لا نرجح وصولنا لنقطة تحول في سوق العمل حتى الآن. تُعد طلبات إعانة البطالة منخفضة وأرباح الشركات قوية، ما يدل على أن خطر ضئيل محتمل لزيادة تسريح العمال".
التضخم في الولايات المتحدة
رغم قوة سوق العمل، عانت إدارة بايدن-هاريس من التضخم في الولايات المتحدة، الذي بلغ ذروته بأكثر من 7% منتصف 2022. ارتفع 2.1% في سبتمبر مقارنة بالعام الماضي -فوق هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي البالغ 2% بقليل- وفق بيانات أمس الأول.
نجم تراجع التضخم عن بعض العوامل. أسهمت أسعار الغاز المتدنية -بالإضافة إلى تكاليف السلع الأساسية الأخرى المرتبطة بالطاقة- بصورة كبيرة، وجدت الشركات أيضاً أنه من الصعب تمرير الأسعار المرتفعة إلى المستهلكين. كما عادت سلاسل التوريد إلى وضعها الطبيعي بعد الاضطرابات الناتجة عن الوباء التي أسفرت عن ارتفاع تكاليف الشحن وأوقات التسليم الطويلة.
لكن الرحلة نحو الانخفاض كانت غير سلسة. في الواقع، زاد نمو الأسعار في سبتمبر مقارنة بالشهر السابق، وفي بعض الأوقات، كان التضخم يبقى ثابتاً لعدة شهور. كان ذلك محبطاً للمستهلكين، لا سيما وأن التضخم المنخفض لا يعني أن الأسعار تهبط، بل ترتفع أكثر لكن ببطء.
يحاول المرشحان معالجة القلق المالي للناخبين. أوضح ترمب الشهر الماضي إنه سيدرس إعفاء ضباط الشرطة ورجال الإطفاء والعسكريين النشطين والمحاربين القدامى من دفع الضرائب. بينما اقترحت هاريس توسيع إعفاء ضريبي للأسر التي تعول أطفالاً وتعهدت بحظر رفع الأسعار بطريقة مفرطة. طرح كلاهما فكرتين بشأن إنهاء الضرائب على الأجور المتضمنة إكراميات.
النمو
كانت الولايات المتحدة الأميركية من بين الأفضل أداء بين الاقتصادات المتقدمة عالمياً، ويرجع ذلك جزئياً إلى الحوافز التي قدمها الكونغرس الأميركي خلال فترة الوباء للاقتصاد. خلال أكتوبر الماضي، رفع صندوق النقد الدولي تقديراته لنمو الاقتصاد الأميركي العام الحالي إلى 2.8% و2.2% في العام المقبل، مدعوماً بزيادة الاستهلاك.
أشار روب سوبارامان، رئيس وحدة بحوث الاقتصاد الكلي العالمي في "نومورا" (Nomura)، إلى أن هذا التوسع كان مدفوعاً بزيادة الإنتاجية والميزانيات القوية للشركات والأسر، إلى جانب الارتفاع الكبير في أسعار الأصول. أضاف: "لقد استفاد الاقتصاد الأميركي الديناميكي والمرن من التعافي من وباء كوفيد أكثر من معظم الاقتصادات الأخرى".
رغم ذلك، توجد تحديات قائمة. من المتوقع أن تصل ديون الولايات المتحدة الأميركية إلى مستوى أعلى، إذ ستبلغ 99% من الناتج المحلي الإجمالي السنة الجارية، وتقدر "بلومبرغ إيكونوميكس" أن تخفيضات الضرائب التي اقترحها ترمب قد تبلغ بها 116% مع حلول 2028، بينما ستبقي مقترحات هاريس الأكثر تحفظاً الدين على مسار يصل إلى 109%.
المستهلكون
مدعومين بوفرة من الادخار وزيادات في الأجور، كثيراً ما فاجأ الأميركيون خبراء الاقتصاد بقدرتهم على الإنفاق كما كان الحال سبتمبر الماضي. لكن علامات الضغط على المستهلكين بدأت في الظهور، إذ ارتفعت مخاوف الأميركيين من التأخر في السداد إلى أعلى مستوياتها منذ بداية الوباء. انخفض أيضاً معدل الادخار بصورة مستمرة العام الحالي.
علاوة على ذلك، لم يستفد جميع الأميركيين من قوة الاقتصاد. ساعدت السوق الصاعدة في رفع صافي ثروة الأسر إلى مستوى قياسي، لكن العديد منهم لا يملكون كميات كبيرة من الأسهم وتراكمت عليهم الديون خلال السنوات الأخيرة وسط ارتفاع أسعار الفائدة.
أخذ الانقسام طابعاً حزبياً بطريقة متزايدة. حيث أظهر استطلاع رأي جامعة ميتشيغان للمستهلكين منذ فترة طويلة أن الناخبين الذين يعرفون أنفسهم من حزب رئيس البلاد عادة ما يكونون أكثر تفاؤلاً مقارنة بأولئك من الجانب الآخر. اتسعت الفجوة بين آراء المستجيبين بشأن وضعهم المالي في سبتمبر الماضي إلى مستوى قياسي، بحسب سجلات تعود إلى 4 عقود، وفق تحليل أجرته "بلومبرغ إيكونوميكس.