في ظلِّ الجائحة التي أدَّت إلى انهيار الأسواق في مارس الماضي، تراكمت السندات والقروض المتعثِّرة حول العالم، ووصلت لقيمة التريليون دولار في الأمريكتين فقط. وهو ما مثّل بالنسبة لشركات الاستثمار التي تحقِّق أرباحاً عن طريق شراء ديون الشركات المتعثِّرة، فرصة من العمر.
إلا أنَّه وبعد خطة الإنقاذ الفيدرالية الهائلة، وأسعار الفائدة المتدنية، استطاعت بعض هذه الشركات المهتزَّة أن تبقى واقفة على أقدامها لوقت أطول، مما أدَّى إلى تراجع هذه المبالغ المثيرة إلى أقل من 100 مليار دولار.
مبالغ جاهزة للإنفاق
هذا الواقع الجديد، ترك المتخصصين في الديون المتعثِّرة - الذين كان لديهم في وقت ما من العام الماضي مبلغ 131 مليار دولار لإنفاقه - يبحثون عن صفقات مغرية على نحو متزايد.
وحتى قطاع العقارات الذي تضرَّر العام الماضي بعد أن أدَّت الجائحة إلى إغلاق المكاتب والفنادق والمتاجر. بات يتمكَّن في الوقت الحالي من تجنُّب سقوط ملحمي.
إذن، كيف يستخدم مستثمرو الديون المتعثرة – الذين يعدُّ معظمهم من بين الأكثر ذكاءً في الأسواق - كل تلك الأموال النقدية؟
وفي إجابة على هذا السؤال، فإنَّ بعضاً منهم، مثل شركة "كاسبيان كابيتال، قد قرروا إعادة بعض الأموال إلى المستثمرين، لأنَّ المكافآت لن تبرر المخاطر العالية بعد الآن.
في حين يتطلَّع آخرون إلى مجالات أبعد؛ إذ تنغمس شركة "أوليمبوس" في أمور مثل مطالبات المتعهدين غير المدفوعة في الشركات المفلسة بالفعل. في حين تنتقي شركة "آرينا إنفستورز" السندات القابلة للتحويل، والقروض العقارية التي تطرحها البنوك. أما الشركات العملاقة، مثل "أوكتري كابيتال منجمنت" فهي تتجوَّل في آسيا بحثاً عن الفرص.
وفي هذا الصدد، يقول آدم كوهين، وهو الشريك الإداري في شركة "كاسبيان": "الأشخاص في القطاع لا يقومون بالاستثمار حالياً، بل هم يطاردون الفرص فحسب".
وهذا الزخم في السوق يأتي مع طروحات إضافية مدفوعة بمخاطر أكبر، وفقاً لـِهوارد ماركس مؤسس شركة "أوكتري"، وعميد الاستثمار المتعثر، فقد قال في مقابلة مع تلفزيون "بلومبرغ": "للحصول على عوائد أعلى هذه الأيام، عليك أن تكون على استعداد لتقديم ائتمان لشخص ليس من الواضح ما إذا كان سيعود".
ومع ذلك، تستمر الأموال في التدفُّق، فقد أحرز المديرون الماليون بعض التقدُّم في العثور على مجالات جديدة لاستثمارها. إذ جمع حوالي 40 صندوقاً – بدءاً من شركة "أوكتري" وصولاً إلى شركة "أنجيلو غوردون آند كو" – مبلغاً يُقدَّر بنحو 35 مليار دولار خلال هذا العام والعام الماضي، وفقاً للاستشاريين في شركة "بريكن".
الشركات الصغيرة..فرص أكبر
وبالنسبة لشركة "آرينا إنفستورز"، وهي شركة استثمارية بقيمة 2.2 مليار دولار، فإنَّ التوجه نحو الخيارات الأصغر كان له مزايا، كما يقول الرئيس التنفيذي "دان زويرن". وذلك لأنَّ 80% من الشركات المتعثِّرة في أوائل أبريل كان لديها نحو مليار دولار من الديون المستحقة، وحوالي 60% من الشركات التي تقدَّمت بطلب الإفلاس بموجب الفصل 11 العام الماضي، كانت مدينة بأقل من 500 مليون دولار. وقد نتج عن هذا عدد كبير جداً من الشركات الاستثمارية الكبيرة التي تطارد الفرص الكبيرة القليلة المتبقية نفسها.
وقال "زويرن": "عندما تكتب شيكات تزيد عن 100 مليون دولار، فإنَّ مستوى المنافسة يكون كبيراً جداً".
هذا ووظَّفت شركة "آرينا" ما يقرب من 519 مليون دولار جمعتها لاستراتيجية الفرص الخاصة العام الماضي، واستهدفت الصناعات التي تضرَّرت من الجائحة، إذ تشمل المجالات التي نشطت فيها: القروض العقارية، والإقراض في حالات خاصة في مجال الطاقة، والطيران، وتمويل التقاضي.
تشديد الإقراض
ويبحث مديرو الصناديق مثل "أوليمبوس بيك" أيضاً عن الشركات الأصغر من أن تستفيد من أسواق السندات، والأسهم التي بدت محمَّلة بالفرص في الفترة الماضية، فقد تمَّ تعزيزها العام الماضي بسبب الموجة غير المسبوقة من التحفيز الفيدرالي.
وقد تمَّ شراء ديون كبرى الشركات في السوق العامة حالياً. ومن ناحية أخرى، تعتمد الشركات الأصغر على البنوك للحصول على السيولة. ومع أنَّ البنوك تزيد من صعوبة الحصول على قروض، إلا أنَّ نسبتها لا تزال مرتفعة عند 11.4%، وفقاً للمجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهي أعلى بكثير من متوسط 1.9% الذي كان خلال الأزمة المالية الكبرى.
وفي هذا الصدد، يقول "جيسون ديلو"، الرئيس التنفيذي لشركة "باردين هيل إنفستمنت بارتنرز" التي تبلغ قيمتها 8.4 مليار دولار: "إذا كان بوسعك القيام باستثمارات خلال ضائقة السوق العامة فقط، فكل ما عليك القيام به هو الاحتفاظ بموقعك، لأنَّك إذا قمت بالبيع، فعلى الأرجح لن تجد شيئاً آخر لتشتريه".
خطط جمع العوائد
وفي كل الأحوال، يحاول مديرو الصناديق المتعثِّرة القيام بمجموعة متنوعة من التكتيكات لجني العوائد، وفقاً لأشخاص مطَّلعين على المحافظ الاستثمارية. وهذه بعض النماذج:
- جمعت "باردين هيل" 600 مليون دولار من أجل ائتمان تفاوضي خاص في أوائل فبراير، ووزَّعت حوالي 78% منه. فقد ذهبت الأموال إلى خطوط الرحلات البحرية المتطورة، واللياقة البدنية، والتكنولوجيا، والرعاية الصحية، والتعليم، إلى جانب الأصول البديلة مثل المطالبات المدعومة بالتأمين.
- بدأت شركة "أوليمبوس بيك"، التي تدير صندوق تحوُّط بقيمة 1.4 مليار دولار، صندوقاً بقيمة 300 مليون دولار في الشهر الحالي، يركِّز على مطالبات المورِّدين التي تنشأ عن حالات الإفلاس. وغالباً ما تكون المطالبات التجارية المزعومة صغيرة، ولا يمكن تحويلها بسهولة إلى نقد، وهي كثيفة العمالة، مما يجعلها أقل جاذبية بالنسبة للصناديق الأكبر.
- جمعت شركة "أنجيلو غوردون" 3.5 مليار دولار في بداية الجائحة، واستثمرت كل ذلك، بالإضافة إلى مليار دولار في رأس المال المعاد تدويره. وقد فضَّلت عمليات التمويل التي يتمُّ التفاوض عليها بشكل خاص مع عائدات عالية، وحماية قوية لاستثماراتها المكتوبة في اتفاقياتها.
- استثمرت "استراتيجية الائتمان الخاص 3" في شركة "سنتربريدج بارتنرز" مبلغ 1.8 مليار دولار في مارس وأبريل من عام 2020. ومنذ ذلك الحين، تمَّ تداول 90% من هذه الصفقات؛ كما تمَّت إعادة توزيع الأموال في شركات النمو مثل "إتش سي آي غروب"، وتمويل الإنقاذ للشركات مثل سلاسل السينما، بما في ذلك "إيه إم سي انترتينمنت هولدينغز"، وفرعها في المملكة المتحدة "أوديون"، و"ساينوورلد غروب بي إل سي".
- اعتباراً من شهر فبراير، استثمرت شركة "مونارك ألتيرنيتيف كابيتال" أكثر من 60% من 3 مليارات دولار جمعتها العام الماضي لصندوقها الائتماني الأخير المتعثر. وأقرضت الشركة الشركات المفلسة بعد أن أدَّت الجائحة إلى إغلاقها مؤقتاً؛ وتضمَّنت القائمة الشركة الحاصلة على حقِّ الامتياز لـ"وينديز" و"بيتزا هت"، وشركة "أسينا ريتيل غروب" التي تعدُّ الشركة الأم لشركة "آن تايلور"، ومالكة شركة "تشاك إي. تشيز"، بالإضافة إلى شركة "مونارك" التي تتطلَّع إلى ما وراء الجائحة، وفي بعض الأحيان تعزِّز استثماراتها للحفاظ على الشركات واقفة على أقدامها خلال هذه الفترات المليئة بالتحديات.
- جمعت شركة "دي.إي. شو آند كو" مليار دولار لأحدث صندوق ائتمان خاص لها يستهدف الأصول والتمويلات المتعثِّرة مع نافذة استثمارية مدَّتها 5 سنوات، بحسب ما ذكرت الشركة مؤخَّراً.
التروي وانتظار الفرص
وكان الأمر مختلفاً بعض الشيء بالنسبة إلى شركة "كاسبيان كابيتال" التي تبلغ قيمتها 3.5 مليار دولار، إذ يُعدُّ الاستثمار في الديون المتعثِّرة ضيقاً للغاية بالنسبة لها حالياً. لذلك ركَّزت الشركة على الشركات التي تتعرَّض بالكاد لضائقات مالية، وهي تبحث عن عوائد تتراوح بين 10% و 15%، أو ائتمانات يتمُّ تداولها بين 70 و 90 سنتاً على الدولار، في الشركات التي لم تتخلَّف عن السداد بعد.
وحتى مع هذا النطاق الأوسع، قرَّرت "كاسبيان" إغلاق صندوق إستراتيجية التفكيك الذي تبلغ قيمته 500 مليون دولار بعد أن سحبت أمواله عندما انتعشت الأسعار. واستعاد المستثمرون مبلغ 565 مليون دولار.
وفي هذا السياق، قال كوهين: "دائماً هناك إمكانية لتسرُّب المال، وأفضل شيء يمكنك القيام به الآن هو عدم الوقوع في الخطأ، إذ يمكن أن يوفِّر لك ذلك الكثير من المال، وهو أكثر مما يمكن أن تحققه التداولات المتواضعة".
ومن المؤكَّد أنَّ الشركات ذات رأس المال الصبور ليست مضطرة للاستثمار على الفور، فقد تكون هناك موجة أكبر من الفرص بعد أن قلَّص صانعو السياسات الدعم الاقتصادي، وذلك فقاً لـِديفيد ليبوفيتز من شركة "جي بي مورغان".
في غضون ذلك، تتطلَّع شركة "أوكتري" لجمع 15 مليار دولار لأحدث صندوق متعثِّر، ووضع أموالها في العمل خارج الولايات المتحدة حتى الآن، كما تُظهر الإيداعات العامة أنَّ حوالي 10% فقط من رأس مالها المتعهد به قد سُحب اعتباراً من فبراير. وذكر عرض "أوكتري" للمستثمرين ما يقرب من 5 تريليونات دولار من الفرص في جميع أنحاء آسيا، معظمها في الصين، بما في ذلك القروض المتعثِّرة، والسندات، وقروض الظل المصرفي، والقروض ذات الرافعة المالية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت الأصول المتعثِّرة المتبقية مخصصة للتعافي، أو ما إذا كانت ببساطة تستطيع النجاة بفعل ارتداد تاريخي لن يدوم.
وتعليقاً على الموضوع، يقول كريس أسيتو، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة "غابستو كابيتال بارتنرز"، وهي شركة مقرُّها نيويورك، وتختص في اختيار مديري الصناديق الائتمانية: "إذا كان لديك نشاط تجاري قوي بشكل أساسي، يمكنك العثور على السيولة اللازمة لتخطي تحديات عام 2020". وأضاف: "العديد من الشركات التي ما تزال في محنة، هي شركات لديها نماذج أعمال معيبة، وسيكون من الصعب إعادتها على الطريق الصحيح".