ينذر فشل المفاوضات الأخيرة بشأن سد النهضة العظيم في إثيوبيا بالسوء لاستقرار وأمن منطقة شمال شرق إفريقيا، وفي ظلِّ عدم وجود اتفاق واضح يضمن صراحة لمصر والسودان الحصول على المياه العذبة، مع السماح لإثيوبيا باستغلال النهر لتوليد الطاقة؛ يمكن أن يصبح حوض النيل الأزرق مسرحاً لحرب باردة على ضفاف النهر، مع وجود إحتمالية دائمة للحرب المباشرة بين الدول الثلاث.
وتشعر مصر والسودان بالقلق من أنَّ إثيوبيا، بملء الخزان العملاق خلف السد، ستقطع إمدادات المياه عنهما. يجادل الإثيوبيون بأنَّ من حقِّهم استغلال النهر للحصول على الكهرباء التي هم بأمس الحاجة إليها ، وأنَّهم سيحافظون على قدرتهم على ملء الخزان دون خنق دول المصب.
ونتيجة للمأزق، بدأت مصر لأوَّل مرة منذ عقود في إعادة توجيه اهتمامها العسكري جنوباً. ونفَّذت القوات المسلحة المصرية والسودانية سلسلة مناورات حربية مشتركة.
وقدَّم المصريون مساعدات للجيش السوداني في أعقاب الصراع على منطقة "الفشقة" بولاية كسلا المتنازع عليها بين السودان وإثيوبيا.
وأعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأسبوع الماضي أنَّ حصة مصر من مياه النيل الأزرق "خط أحمر" ، مضيفاً أنَّ أيَّ خفض سيؤثِّر على استقرار المنطقة بأكملها.
ليس من الصعب تخيُّل شكل عدم الاستقرار مع وجود استثمارات عسكرية ضخمة من قبل جميع الأطراف، ومواجهات دبلوماسية في منتديات متعددة الأطراف، ودعم الجماعات الانفصالية وحركات التمرد. حتى لو لم تتحوَّل المواجهة إلى أن تكون حركية (من خلال تحرُّك عسكري مباشر) أبداً؛ لكنَّها ستكون مكلفة.
وهذا شيء لا تستطيع أي دولة من الدول الثلاث تحمله، فجميعها فقيرة وذات كثافة سكانية عالية. تحسب إثيوبيا تكاليف حرب أهلية دامية في إقليم " تيغراي " الشمالي، ويكافح السودان للتعافي من ثلاثة عقود من العزلة الدولية، ولدى مصر مشكلة فقر خطيرة؛ وذلك لأنَّ ثلث سكانها البالغ عددهم 100 مليون نسمة يضطرون إلى العيش بأقل من دولارين في اليوم. بالإضافة إلى ذلك، تتحمَّل الدول الثلاث أعباء الأضرار الاقتصادية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا.
بيد أنَّه لا يبدو أنَّهم على مقربة من التوصُّل إلى اتفاق. ويعود أصل الخلاف بينهم إلى اتفاقية تقاسم المياه لعام 1959 بين مصر والسودان بالإضافة إلى إثيوبيا التي لم تكن طرفاً في الاتفاقية، وتعدُّها وثيقة لا معنى لها تعود إلى الحقبة الاستعمارية. وفي عام 2015 ، اتفقت الدول الثلاث على ضرورة استخدام مياه النهر بطريقة لا تسبِّب "ضرراً كبيراً " لأيٍّ منها ، وأنَّ أي نزاعات سيجري حلها من خلال المفاوضات.
اتفاق جديد
تريد القاهرة والخرطوم اتفاقاً جديداً يترجم هذا التعهد بعدم إلحاق الضرر بالتزام إثيوبي يعطي الأولوية لحصولهم على المياه على توليد الكهرباء في حالة فترات الجفاف الممتدة في المستقبل. وتخشى أديس أبابا من أنَّ مثل هذا الالتزام سيجعل تشغيل سد النهضة خاضعاً لموافقة دولتَي المصب. ولا ترى إثيوبيا أي فائدة من الموافقة على استبعاد نفسها من أي استخدام للمياه في المستقبل.
كيف نخرج من هذا المأزق؟ تتمثَّل إحدى المقاربات في السعي إلى التوصُّل لاتفاق بشأن العمليات المحددة لسد النهضة خلال فترات الجفاف الطويلة، بطريقة تحقق التوازن بين الاحتياجات المائية لمصر والسودان ومتطلَّبات توليد الطاقة في إثيوبيا. هذا من شأنه أن يترك المسألة الأكبر المتعلقة بتقاسم المياه دون حل، لكنَّ الأطراف الثلاثة قد تتفق بشكل معقول على أنَّ الصفقة المثالية لا ينبغي أن تكون عدواً يعرقل التوصل لصفقة جيدة.
لكن أولاً ، سيتعيَّن عليهم العودة إلى طاولة المفاوضات لإجراء جولة أخرى من المفاوضات، ولن يحدث ذلك إلا تحت ضغط دولي مستمر، لا سيَّما من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ إذ يتمتَّعان بنفوذ تجاري، ويقدِّمان المساعدات للدول الثلاث.
على الرغم من أنَّ الاتحاد الأفريقي لعب دور الوسيط النزيه في المحادثات الأخيرة، إلا أنَّ الوساطة الأمريكية كانت الأقرب لتحقيق انفراجة في عام 2020. وعندما اعترضت إثيوبيا، علَّقت إدارة ترمب المساعدة لأديس أبابا، وفقدت الاهتمام بالسعي لحل النزاع.
ومنذ توليه منصبه، أبدى الرئيس الأمريكي جو بايدن القليل من الاهتمام بتعويض ما فات في ملفِّ سدِّ النهضة، وبدلاً من ذلك ركَّز على الوضع في إقليم " تيغراي "، فقد أرسل عضو مجلس الشيوخ السناتور " كريس كونز " للقاء رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد الشهر الماضي، لنقل مخاوف واشنطن الشديدة بشأن الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب الأهلية، ولكن ليس على ما يبدو، للضغط من أجل الحصول على تنازلات بشأن مشروع السدِّ.
قد يتغيَّر ذلك قريباً بعد أن أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية تعيين مبعوث خاص للقرن الأفريقي، لمعالجة الأزمات السياسية في المنطقة، بما في ذلك الخلاف حول سد النهضة. وجاء تجدُّد الاهتمام الأمريكي في حينه وعلى نحو ضروري.