تتجه الولايات المتحدة نحو تسجيل أكبر عجز في الميزانية الاتحادية في تاريخها مع استثناء فترات الأزمات، مثل جائحة كورونا والأزمة المالية العالمية والحرب العالمية الثانية.
سيكون هذا العجز الضخم سبباً إضافياً لتبادل اللوم في واشنطن خلال العام الانتخابي. إذ ينتقد الجمهوريون إفراط الديمقراطيين في الإنفاق، فيما يعزو الديمقراطيون العجز إلى التخفيضات الضريبية التي أقرّها الجمهوريون، وسببت تراجعاً في الإيرادات.
يُتوقع أن يبلغ العجز خلال السنة المالية التي تنتهي في 30 سبتمبر نحو 1.9 تريليون دولار، أي 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لتوقعات صدرت في 19 يوليو عن مكتب الإدارة والميزانية الأميركي التابع للبيت الأبيض. وتشير تقديرات مكتب الميزانية غير الحزبي في الكونغرس إلى أن العجز سيكون أكبر من ذلك، وسيصل إلى 6.7%.
ازدياد أعداد المسنين
فيما ستبلغ الإيرادات الحكومية 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أعلى بقليل من وسطيها بين 1984 و2023، وفقاً لأرقام مكتب الإدارة والميزانية، يُتوقع أن يتجاوز إجمالي الإنفاق وسطيه خلال الفترة عينها بما يفوق تلك النسبة، ليصل إلى 24.2% مقارنة مع متوسط 21.1%، وهي أرقام ظاهرها يدعم زعم الجمهوريين بأن الإنفاق المرتفع هو سبب المشكلة.
لكن الصورة ستبدو أكثر تعقيداً إن نظرنا عن كثب. إن سبب المشكلة ليس النفقات التي يتعيّن على البيت الأبيض والكونغرس الاتفاق عليها سنوياً، وهي تشمل كل شيء، من الدفاع إلى التعليم ووصولاً إلى المنتزهات الوطنية والمساعدات الغذائية، إذ يُتوقع أن يشكّل الإنفاق التقديري في الموازنة الحالية 6.4% من الناتج الإجمالي المحلي، وهذا دون الوسطي خلال 40 عاماً مضت وهو 7.5%.
بيّن شاي أكاباس، المدير التنفيذي لبرنامج السياسة الاقتصادية لدى مركز "بايبارتيزان بوليسي" أن ازدياد العجز ناجم "عن عوامل خارج عملية إعداد الموازنة"، وعزاه "بشكل أساسي إلى الواقع السكاني وتكاليف الرعاية الصحية".
عموماً، يعود ارتفاع العجز إلى سببين رئيسيين: الإنفاق المبرمج الإلزامي، أي ما يُعرف بالاستحقاقات التي أشار إليها أكاباس، وتكاليف الفائدة على الدين الوطني.
فقد شهدت النفقات الإلزامية ارتفاعاً مطرداً على مر السنوات الماضية، ويُتوقع أن تبلغ 14.6% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة المالية الحالية، أي بزيادة قدرها 3 نقاط مئوية كاملة عن وسطيها خلال 40 عاماً.
لقد جاء معظم هذا الارتفاع بسبب برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية التي توسعت في ظل زيادة سريعة في عدد الأميركيين من سن 65 عاماً وما فوق. تبين تقديرات إدارة الضمان الاجتماعي أن أكثر من 67 مليون إنسان سيستفيدون من هذه المزايا في 2024، أي بزيادة تفوق 8 ملايين شخص عن أعداد 2015.
ارتفاع كلفة الدين العام
إن زيادة عدد المسنّين الأميركيين وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية هما قوتا الدفع الأساسيتان وراء زيادة الإنفاق على برامج الرعاية الصحية الحكومية الاتحادية، بما يشمل برنامجي "ميديكير" و"ميديكيد".
ويُتوقع أن يصل الإنفاق على برامج الرعاية الصحية الرئيسية إلى 5.8% من الناتج الإجمالي المحلي في 2024، وفق أرقام مكتب الميزانية غير الحزبي في الكونغرس، مقارنة بمتوسط 3.4% بين 1974 و2023.
في غضون ذلك، زادت مدفوعات الدين العام وقدره 27.8 تريليون دولار في ظل ارتفاع أسعار الفائدة. فقد ارتفع متوسط معدل الفائدة الذي تدفعه الحكومة على سندات الخزانة إلى أكثر من الضعف ليصل إلى 3.3% منذ باشر الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم في مارس 2022.
ويتوقع مكتب الإدارة والميزانية أن تصل مدفوعات الفائدة الصافية إلى 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، وهي النسبة الأعلى منذ 1991. تعليقاً على ذلك، قال أليكس بريل، الزميل الأول في معهد "إميركان إنتربرايز" : "نظراً لضخامة حجم هذا الدين، فإن الأموال تتراكم بسرعة في غياب وسادة مالية".
يُتوقع أن تتجاوز الإيرادات من ضرائب الدخل الفردي وضرائب الشركات وضرائب الرواتب خلال السنة المالية 2024، المتوسط الذي سجلته خلال 24 سنة الماضية، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، في جميع الفئات الثلاث.
لكن هذا لا يعني أن التخفيضات الضريبية التي أقرها دونالد ترمب خلال ولايته قد غطت تكاليفها كما يدّعي الجمهوريون تكراراً. لقد وجد معظم الاقتصاديين الذين درسوا تأثير قانون خفض الضرائب وتعزيز التوظيف الصادر في 2017، أن هذه التخفيضات كلفت الحكومة أكثر بكثير مما حصّلته جرّاء النمو والتوظيف المتأتيين من تغييرات جلبها القانون.
خلافات حول قانون خفض الضرائب
كانت عوامل مثل التحفيز الحكومي والانخفاض التاريخي في البطالة هي ما عزز النشاط الاقتصادي، فزادت الإيرادات الضريبية. كما أن هوامش أرباح الشركات ارتفعت بقوة خلال الجائحة، إذ حظيت الشركات بحرية أكبر لرفع الأسعار، فعزز ذلك الإيرادات الضريبية أيضاً.
يسعى الجمهوريون إلى جعل التخفيضات الضريبية للأفراد التي أُقرّت بموجب قانون خفض الضرائب وتعزيز التوظيف لعام 2017 دائمةً، بدل أن ينتهي العمل بها في 2025. إلا أن بعض الديمقراطيين يطالبون بإبقاء التخفيضات للأسر التي تكسب أقل من 400 ألف دولار سنوياً، وزيادة الضرائب على الشركات والأفراد ذوي الدخل المرتفع.
قال مايكل فيرولي، كبير الاقتصاديين المتخصصين في الشأن الأميركي في "جيه بي مورغان" إن التمسك بقانون خفض الضرائب وتعزيز التوظيف سيؤديان إلى استمرار تراجع الإيرادات وتردي التوقعات المتعلقة بالعجز الأميركي على مدى عقد. فهو يعتقد بأن أي حل لتقليص العجز سيتطلب مزيجاً من زيادة الإيرادات عبر رفع الضرائب وتقليص المدفوعات الإلزامية، وليس أحدهما دون الآخر.
أضاف فيرولي: "هناك طرق عدة يمكن من خلالها إصلاح الضمان الاجتماعي... الإنفاق على برنامج (مديكير) والرعاية الصحية أصعب قليلاً، لكن توجد بالتأكيد خيارات متاحة".
قلق دولي
لا توجد حالياً أي خطط رسمية قيد الإعداد لإصلاح الضمان الاجتماعي، الذي يُتوقع أن يواجه نقصاً في الأموال اللازمة ليتمكن من تغطية جميع المزايا بحلول 2033، كما لا توجد خطط لإصلاح برنامج "مديكير" الذي قد يبلغ حافة الانهيار في 2036.
في حين يدعو عدد من الجمهوريين لإلغاء بعض المزايا أو رفع سنّ أهلية الاستفادة منها، فقد اقترح بعض الديمقراطيين رفع الضرائب على الأثرياء لتوليد إيرادات إضافية لدعم البرنامجين.
كانت وزيرة الخزانة جانيت يلين قالت في مقابلة مع "بلومبرغ نيوز" في يونيو، إن مطالبة الأسر التي تجني أكثر من 400 ألف دولار بدفع ضرائب أعلى للضمان الاجتماعي "يبدو بالتأكيد أمراً منطقياً" لمعالجة المشكلة.
أظهرت التوقعات الصادرة عن مكتب الميزانية في الكونغرس في يونيو أن العجز التراكمي خلال العقد الممتد من 2025 إلى 2034 سيبلغ 22.1 تريليون دولار، في حين بدأ القلق من المسار الذي تسلكه المالية العامة الأميركية يتجاوز حدود البلاد.
في يونيو، أصدر صندوق النقد الدولي بياناً انتقد فيه الولايات المتحدة على العجز "الكبير جداً"، مشيراً إلى أن ما يصاحبه من ارتفاع في عبء الدين يشكل خطراً على الاقتصاد العالمي.
كما دقّ خبراء اقتصاديون في الولايات المتحدة ناقوس الخطر. قالت كارن دينان، الأستاذة في كلية كينيدي في "جامعة هارفرد" والمساعدة السابقة لشؤون السياسة الاقتصادية في وزارة الخزانة خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما: "في نهاية المطاف سنحتاج إلى خفض الإنفاق أكثر وزيادة الإيرادات الضريبية... نحتاج إلى تخفيف العجز وإلا سيلحق الضرر باقتصادنا، ولكن هناك أدوات مختلفة يمكن تسخيرها لتحقيق ذلك".