"كل ما تحتاجه هو الحب"
"كل ما تحتاجه هو (الحب) الدولارات"
في ستينيات القرن الماضي، لم تقتصر مساهمة فرقة البيتلز على الموسيقى، بل امتدت لتشمل خدمة جليلة لاقتصاد بريطانيا المترنح آنذاك. فبين عامَي 1964 و1966، ساهمت إيرادات الحفلات الدولية للرباعي الشهير في توفير إيرادات كبيرة من العملة الصعبة ساعدت على الحفاظ على استقرار ميزان المدفوعات وبالتالي سعر صرف الجنيه الإسترليني. وينقل الكاتب البريطاني دنكن ويلدون عن مصادر قدّرت أن الفرقة حققت 650 دولاراً أميركياً في الثانية الواحدة خلال الحفلات التي أُقيمت في الولايات المتحدة.
استخدم أغنية البيتلز "كل ما تحتاجه هو الحب" لشرح مفهوم ميزان المدفوعات لصحفيي الاقتصاد في الدورات التي نقدمها في أكاديمية SRMG للتدريب. الربط غريب ولكنه سهل. للحفاظ على استقرار ميزان المدفوعات، كل ما تحتاجه هو الدولارات.. ولكن ما هو ميزان المدفوعات في المقام الأول؟ ولماذا يتعين علينا نحن العرب أن نعرف كل ما يمكننا معرفته عنه؟
ميزان المدفوعات هو ببساطة بيان عن العلاقة المالية بين هذا البلد أو ذاك وبقية العالم: حجم التدفقات المالية للداخل (حصيلة الصادرات، والسياحة، وتحويلات المغتربين، والاستثمارات الأجنبية على سبيل المثال) مقابل الأموال الخارجة (فاتورة الواردات، والاستثمارات الخارجية الخ).
نموذج لبنان ومصر
لتدرك أهمية ميزان المدفوعات، يجب فقط أن تعرف أنه سبب معظم الأزمات الاقتصادية الخانقة التي عانت وتعاني منها مجموعة من دول الشرق الأوسط. عندما نتحدث عن أزمة في سعر الصرف ناتجة عن شح كبير في الدولار الأميركي، فإننا نتحدث عن أزمة في ميزان المدفوعات. لنأخذ الأزمة الحالية في لبنان كمثال: لسنوات طويلة، اعتمد لبنان على تحويلات المغتربين لتمويل الدين الحكومي بالدولار حتى عصفت أزمة ثقة بالاقتصاد، فتقلصت التحويلات وزاد حجم الأموال التي تركت البلاد لدرجة أدّت إلى تخلف الدولة عن سداد ديونها للمرة الأولى في التاريخ.
لمصر أيضاً تاريخ طويل مع أزمات ميزان المدفوعات آخرها ما حدث بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتي أدت إلى تراجع عائدات السياحة وارتفاع فاتورة استيراد الغذاء. كما أدّى ارتفاع معدلات الفائدة عالمياً إلى خروج مليارات الدولارات من الأموال الساخنة (استثمارات أجنبية في الدين المحلي). أثرت كل هذه العوامل على إيرادات البلاد الرسمية من العملة الصعبة، فكانت النتيجة انهيار لسعر الصرف في السوق السوداء حتى استطاعت الحكومة الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولارات وحزمة استثمارات ومساعدات كبيرة من الإمارات والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.
دول الخليج وتنويع الاقتصاد
الدول العربية المصدّرة للبترول لا تعاني من أزمات في ميزان المدفوعات حالياً بسبب ارتفاع الأسعار. بعبارة أخرى، البترول هو "بيتلز" دول الخليج. غير أن هذه الدول بحاجة إلى تنويع مصادر الدخل الدولاري بعيداً عن صادرات النفط، وهو ما رأيناه أولاً في الإمارات من خلال تطوير قطاع السياحة والخدمات في دبي، وتسعى السعودية إلى تحقيقه الآن من خلال "رؤية 2030". هي مهمة ليست بالسهلة لكن البيانات تشير إلى تقدم واضح في ذلك الاتجاه.
تيم كالين، مدير إدارة الخليج السابق في صندوق النقد الدولي، كتب مؤخراً عن تطوير مصادر الدخل الدولاري غير النفطي في السعودية. اللافت أنه اختار المقارنة بين عامَي 2023 و2018 لتقارب مستوى الإيرادات النفطية (عند انخفاض إيرادات النفط يبدو القطاع غير النفطي كبيراً بشكل مصطنع والعكس صحيح). المقارنة توضح ارتفاع حصة الدخل الدولاري غير النفطي إلى 33% من إجمالي الصادرات، مقابل 22% في عام 2018. يوضح كالين أن السبب الرئيسي في هذا التحسن يعود إلى ارتفاع عائدات السياحة.
غير أن السر في الحفاظ على استقرار ميزان المدفوعات على المدى المتوسط والطويل يكمن في تنويع مصادر الدخل بصورة كافية لامتصاص الصدمات. من هنا يجب التنويه بأن الجهد الذي نراه في بعض دول الخليج يبدو إيجابياً، لكن المشوار لايزال طويلاً.
أما بالنسبة لمعظم الدول المستوردة للنفط في المنقطة، فالمهمة تبدو شاقة بالفعل لأنها تتطلب إجراءات حاسمة لتطوير السياسة الاقتصادية والصناعية لدعم الصادرات وتطوير البنية التحتية الجاذبة للسياحة والاستثمار. هي شعارات نسمعها بالفعل من مسؤولي تلك الدول بصورة منتظمة عندما يتحدثون عن القدرات والإمكانات المتاحة لبلادهم. لكن الكلام شيء والفعل شيء آخر.
علاء شاهين صالحة صحفي وكاتب لبناني يشغل منصب مدير أكاديمية SRMG للتدريب، وشغل منصب مدير تحرير الاقتصاد الأوروبي في بلومبرغ.
ttps://x.com/AlaaShahine